إن القداسة في مفهومها الروحي الايماني والديني، هي علاقة عامودية مباشرة بين السماء والارض، بين الله والمؤمن. والقدسية تتصف بالكليانية والكلية، الابدية والمنزّهة عن كل عيب وشائبة، ويعتبر المساس بها تُهمة وظنّة بتنجيسها. ومن أهم مرتكزات التدرج نحو القداسة أن تكون الوسيلة (صالحة) من طبيعة الغاية.
أما القداسة في لبنان أفقية، تتمدد وتتسطح لتطال كافة مفاهيم الحياة والمجتمع، وتحولت الى أخطاء شائعة، تعشعش في نفوس مجتمعنا ومفرداتنا ومفاهيمنا الانسانية والسياسية والاجتماعية.. وأخطرها ما يسمى بـ "قدسية الاعلام والصحافة..."
ففي باطن هذه "الذخائر المقدسة" وتحت هياكلها، تكمن فصائل الشياطين المتجاوزة لرسالة الاعلام والصحافة في مساعدة الانسان ببحثه عن الحقيقة والحدث المرتبط بصالحه ووجوده. ويغيب عن بال بعضهم أن الحقيقة نسبية ولها أوجه متعددة: "من يملك الحقيقة في هذه الدنيا؟؟ ماذا عن الوسائل المعتمدة في البحث عنها، هل هي دائما منزهة وخيّرة؟ أين القدسية؟
والخطورة في الموضوع، كون هذه "القدسية الشائعة" مرتبطة بالكلمة المنقولة والمكتوبة، المرئية والمسموعة. وكثير من الاحيان، في بعض وسائل الاعلام تكون هذه الكلمة مسمومة ومسعورة.
في مقولة "الكلمة أقوى من السيف"، اليس للسيف حدّين: للقتل والدفاع، للإجرام وفرض الامان؟ هذه حال الكلمة التي يمكن أن تقتل وتحيي، تهين وتحترم، تشتم وتُهَذِّب... أين القداسة؟
وفي تاريخ الصحافة والاعلام، كم من الجرائم والمذابح والابادة الجماعية أدمت صفحاتها، وأبرزها الحرب الاهلية الرواندية بين عامي 1990 و1993 التي راح ضحيتها ما بين 800 ألف ومليون شخص. وفي تشرين الثاني 1994 أنشأ مجلس الامن المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الابادة الجماعية واصدرت 27 حكما ضد 33 متهما، ومن ابرز ما يميز هذه المحكمة محاكمة ثلاثة من اصحاب وسائل الاعلام بتهمة استخدام وسائل الاعلام الخاصة بهم للتحريض على الكراهية...
وفي لبنان، كم من الصحافيين ووسائل الاعلام ينشرون كل صباح براثن الحقد والكراهية والافتراء على صفحاتهم الصفراء؟ ولو كنا اليوم نعيش في حالة حرب اهلية، هل نتخيل كم ستساهم هذه المحطات والجرائد في ارتكاب الجرائم والمذابح؟ (اللهم اني أفترض).
ووسائل الاعلام في لبنان وغيره، ليسوا عشائر لتتضامن مع نفسها في السرّاء والضرّاء، في الخطأ والصواب...
ثم، ان مثول الاعلاميين في "الاخبار" و"الجديد" أمام المحاكم الدولية والمحلية ليست جريمة أو تعدّ على الحريات الاعلامية، بل صونا وحفاظا على مسلكية "الحريات المسؤولة" في بعدها الانساني، كي لا تتحول الى ابواق للانحطاط والانفلات من الضوابط الاخلاقية والقانونية.
والمحكمة الدولية لها معايير عالية حسب أهل الاختصاص، وقوس عدالتها ونزاهتها أشرق وأشرف من أقواس المحاكم "العضومية...".
في الخلاصة، ان كانت الحريات في مفهومها العام، لا تُطال وهي في عالم المُثُل، فالاعلام والصحافة والكتابة والتعبير... هي صورة المثل وتجسيد لها في عالم المادة، وكل ما هو مادي وبشري غير مقدّس ويخضع للمحاسبة والاقتصاص القانوني والاخلاقي.