الساسة اللبنانيّون في غمار الشتائم المتبادلة وعلى حافّة العراك بالأيدي
تحقيق MAR 15, 2012
ظاهرة قديمة-جديدة تجتاج الساحة السياسيّة اللبنانيّة
الساسة اللبنانيّون في غمار الشتائم المتبادلة وعلى حافّة العراك بالأيدي

 
ظاهرة قديمة - جديدة عادت لتطفو على سطح الساحة السياسيّة اللبنانيّة مؤخّراً، بعد أن حوّل الساسة اللبنانيّون خلافاتهم وسجالاتهم الكلاميّة، في غير مناسبة، إلى مشادّات فيها من العنف الكلاميّ وحتّى الجسديّ، ما يناقض أيّ مفهوم للديمقراطيّة والحياة السياسيّة السليمة.
 
شواهد من تاريخ لبنان المعاصر
فهذه الظاهرة العائدة إلى الواجهة محليّاً بشكل مستجدّ، ليست بمحض جديدة كما سبق وذكرنا، بحيث إنّ العديد من المشاهد التي تصبّ في نفس إطارها، يمكن تقصّيها من أرشيف التاريخ المعاصر لحياتنا السياسيّة اللبنانيّة. وإن نذكر بعضاً منها، فلن يكون بهدف التصويب على من شارك فيها، إنّما على خلفيّة كونها أبرز ما يرصده المراقبون وأكثره صبّاً في إطار ما نقارب من موضوع.
استطراداً، من أبرز هذه المحطّات نذكر الحادثة الشهيرة التي طبعت بدايات الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حينما تهجّم رئيس الجمهوريّة السابق أمين الجميّل – وكان وقتذاك نائباً – على رئيس الوزراء آنذاك رشيد الصلح، أثناء مغادرة الأخير لقاعة المجلس النيابيّ بعد أن تلا خطاب استقالته من رئاسة الحكومة في أيّار ال1975.

  

إلى ذلك، من البديهيّ لكلّ من عايش اليوميّات اللبنانيّة منذ ما بعد استقلال العام 1943 وحتّى عام 1987، أن يستذكر في شخص رئيس الجمهوريّة الراحل كميل شمعون "لسانه الزفر" في العديد من المناسبات، أكانت علنيّة أم مسرّبة إلى وسائل الإعلام. هذا ويتذكّر بطبيعة الحال أيضاً الواقعة التي نعت فيها رئيس حزب الكتلة الوطنيّة الراحل ريمون إدّه، من فرنسا، الرئيس شمعون ب"الكلب".
 
النزعة العنفيّة التاريخيّة لدى الإنسان
أمّا وقد عدنا بالذاكرة إلى مرحلة سابقة من تاريخ لبنان بغية تأكيد أنّ جذور ظاهرة العنف الكلاميّ والجسديّ ليست "ابنة يومها"، بصرف النظر عن أنّها استقرّت في مرحلتنا هذه على منسوب عنفيّ أعلى،  فلن يكون من المضرّ في أيّ من الأمكنة أن نتطرّق إلى الخلفيّة التاريخيّة للنزعة العنفيّة لدى الجنس البشريّ ككلّ، باعتبار أنّها تساهم في تبيان الخلفيّات والجذور اللا واعية لكلّ تفاعل عنفيّ تشخص له أعيننا.
فهي قديمة قدم وجود الإنسان على الكرة الأرضيّة، إذ إنّها وُجدت في الجماعات البدائيّة المغلقة التي انتمى إليها، حيث شكّل العنف السبيل المُستخدم بهدف درء أخطار الجماعات الأخرى، بما أنّ عامل العنف في تكوينه الموضوعيّ ذات خلفيّة غرائزيّة تتمثّل بدوافع الإنسان في البقاء والتملّك والسطوة. ولقد تطوّرت هذه النزعة على مرّ العقود والقرون، فكانت كتب التاريخ خير مؤكّد لهذا الواقع، إذ إنّ صفحاتها لطالما كانت مليئة بالصور الدامية والبشعة حول تناحر الجنس البشريّ في ما بينه وحول حروبه ومعاركه.
وفي واقع الحال أنّ العنف، أكان جسديّاً أم معنويّاً، قد طبع القرن العشرين الذي أسدل عليه الستار حديثاً، خصوصاً أنّ العالم قد شهد خلاله أعتى الحروب وأكثرها دمويّةً وزهقاً للأرواح. إلى ذلك، لا يمكن لأيّ باحث موضوعيّ أن يغضّ الطرف عن وسائل الإعلام التي فتحت الباب عالياً، ابتداءً من النصف الثاني للقرن الماضي خصوصاً، أمام الإسهام أكثر فأكثر في التسويق للعنف، وتبقى أفلام الactionخير الأمثلة على ما تقدّم.
غير أنّ الأخطر على هذا الصعيد، يبقى من دون شكّ أنّ هذه "الدعاية العنفيّة" لا توفّر صغار السنّ، فتغرق يوميّاتهم بالأفلام الكرتونيّة التي تخلص دائماً إلى أنّ الشخصيّة غير الشرّيرة، في ما يشاهدون، تلجأ إلى استخدام العنف بهدف إلحاق الهزيمة بالشخصيّات الشرّيرة، ما يحوّلها إلى بطل يلقى الاستحسان من كلّ محيطه.
وتكمن الخطورة ها هنا حقيقةً في أنّ الأطفال يتعلّمون السلوكيّات الجديدة من خلال مراقبة مَن مِن حولهم، ويقومون تالياً في لا وعيهم بتقليده والعمل بمثله. وهذا ما عمل العالم النفسيّ "ألبرت باندورا" على تثبيته عبر دراسة أجراها في خمسينيّات وستّينيّات القرن الماضي، حيث توصّل في ختامها إلى نظريّته الشهيرة المعروفة ب"نظريّة التعلّم الاجتماعيّ" (Théorie de l'apprentissage social).
 
من تحت قبّة البرلمان إلى محطّات التلفزة
وإذا كانت هذه النزعة قد انسحبت من القرن المنصرم إلى قرننا هذا، فكيف يكون واقع لبنان تحديداً على هذا الصعيد، خصوصاً أنّ لا استقراراً يسود نفوس مواطنيه، لا بل أنّ الخوف من المستقبل المجهول الذي قد يكون مليئاً بأحجار عثرة تعيق مسارهم، هو الذي يسيطر عليهم، كما أنّ ذكرى حربهم الأهليّة لا تزال محفورة في ذاكرتهم؟!
حقيقةً، في ما يتعلّق بساحته السياسيّة، فإنّ الظاهرة العنفيّة التي تحدّثنا عنها في مقدّمة التحقيق، كانت قد حطّت رحالها بدايةً فيجلساتمناقشةالبيانالوزاريّلحكومةالرئيسنجيبميقاتي، منذ ما يزيد عن الثمانية أشهر، حيث سادت "لغة الكلاب" تحت قبّة البرلمان، فكادت الشتائم تتحوّل إلى عراك بالأيدي بين نائبين "موقّرين".

 

وعلى غرار ما سبق، كانت المحطّة الثانية التي تلت من النسق عينه، حيث نحا التلاسن بين وزير ونائب سابقين باتّجاه سيل من السباب والكلمات النابية، وصولاً إلى رفع أحدهما للكرسيّ الذي كان يجلس عليه بمحاولة منه لضرب الثاني به، وذلك كلّه مباشرة على الهواء وأمام أعين الملايين من المشاهدين.



وعلى الرغم من فظاعة ما تقدّم ونسفه لكلّ مفاهيم الحضارة والديمقراطيّة التي يُفترض أن تشوبا العمل السياسيّ في أيّة دولة في القرن الواحد والعشرين... وعلى الرغم من الاستنكار الذي انسحب على السياسيّين كافّة، كما الاعتذارات والتوضيحات التي صدرت على لسان بعض من شارك في الأحداث الآنفة الذكر، عملاً ب"فلسفة": "اشتم أو اضرب ثمّ اعتذر"... على رغم هذا كلّه، كرّت السبحة، فكان المجلس النيابيّ من جديد مسرحاً لإحدى الجولات المتنقّلة، حيث جاهر أحد النوّاب بكلّ اعتزاز ب"صبّاطه"، معتبراً إيّاه محترماً أكثر من أحد زملائه المناوئين له سياسيّاً.
 
وبين هذه الحادثة وتلك، كانت المنابر الإعلاميّة تغصّ بالسياسيّين الذين لم يوفّر غالبهم -لعدم الوقوع في خطأ وظلم التعميم-، أيّة كلمة نابية أو تهجّم شخصيّ إلّا وصوّبه باتّجاه خصومه السياسيّين، إلى درجة أنّ أحد النوّاب وصلت به الحالة العنفيّة إلى حدّ تهديد زميل له بضربه على أبواب البرلمان.
 
 
أسئلة تُطرَح
وفي ضوء كلّ التصريحات والأحداث الناريّة، لكي لا نقول السفيهة، التي آنفنا عنها الحديث، خُيّل للبنانيّينأنّهم يعيشون داخل كتاب "كليلة ودمنة"، ولكن بنسخته اللبنانيّة-السياسيّة طبعاً، التي تخلو قصصها من أيّة حكمة أو أخلاق، أو لكأنّهم قد انتقلوا بسحر ساحر ليعايشوا أروقة "Hollywood" حيث تحيط بهم أفلام الactionمن كلّ حدب وصوب.
وفي هذا الجوّ المنحدر، كثرت تساؤلات المراقبين، وباتت محاولة تشريح ما آلت إليه الأمور من تطوّر دراماتيكي في مستوى التخاطب السياسيّ المحلّيّ،  الشغل الشاغل للعديد منهم.
فما هي التفسيرات الاجتماعيّة والسياسيّة لخلفيّات هذه الظاهرة؟ وما قد تكون ارتداداتها على القواعد الشعبيّة وبالتالي على الاستقرار الداخليّ الهشّ أساساً، إذا ما استُمرّ في الإمعان فيها؟ كذلك، ما هو تأثيرها على نظرة الرأي العامّ للسياسيّين الذين يشاركون فيها؟
من ناحية أخرى،  كيف تتعاطى وسائل الإعلام معها انطلاقاً من منظار "الأخلاقيّات الإعلاميّة"؟  وما هي السبل الآيلة، على الصعد كافة، إلى احتوائها والحدّ منها ؟
 
ظاهرة اجتماعيّة قديمة
في إطار التساؤلات المطروحة أعلاه، تذكر الدكتورة في علم الاجتماع ميّ مارون سبع أنّ "ظاهرة السباب والعنف الكلاميّ، كما الجسديّ، موجودة بالأساس في الثقافة العربيّة، واللبنانيّة على وجه التحديد، خصوصاً أنّ اللبنانيّين يشوبهم عدم الاستقرار على الصعد كافّة، كما الخوف والقلق الدائمين من المستقبل المجهول المعالم"، وبالتالي "من غير المستغرب الكلام عن هذه الظاهرة في وقتنا الحاضر".



وتوضح أنّ هذه الظاهرة كانت موجودة على صعيد الحياة السياسة اللبنانيّة أسوةً بالمجالات الحياتيّة الأخرى، بما أنّ "السياسيّ هو ابن بيئته، غير أنّ اللبنانيّين بدأوا يتنبّهون إليها بشكل أكبر في الفترة الأخيرة، لأنّ منسوبها قد ارتفع بشكل ملحوظ". إلّا أنّها تؤكّد في الوقت عينه أنّ "واقع وجود هذه الظاهرة من الأساس لا ينفي أنّ الخطاب السياسيّ المبنيّ عليها هو بنظر علماء الاجتماع تخاطباً خاطئاً وسلبيّاً بطبيعة الحال، معتبرة أنّه "نتاج خلل كبير جدّاً في ثقافة تخاطبنا مع الآخر، حيث لا حوار حقيقيّاً، وحيث يسعى "المتخاطبون المفترضون"، إلى فرض نظرتهم الواحدة على الجميع".
وعلى الرغم من جزمها بخطأ هذه الظاهرة، فهي تلفت إلى أنّ "الناس تحبّ أن تكسر "التابوهات"، لذلك نلاحظ أنّ هذا التخاطب السياسيّ الخاطئ من المنظار الاجتماعيّ، هو مرحّبٌ به من قبل القسم الأكبر من الرأي العامّ اللبنانيّ، حيث يحظى (الوزير السابق) وئام وهّاب مثلاً، بشخصيّته وأسلوبه المعروفين، على أكبر نسب مشاهدة". وتتابع: "قلّة قليلة تنزعج بالفعل من هذه الظاهرة وهي فئة الحياديّين على وجه الخصوص وبعض المثّقفين الواعين لحقيقة الأمور، فيما الأكثريّة من الناس تتفاعل معها لأنّها تشكّل تعبيراً صادقاً عنها".
 
مسؤوليّة وسائل الإعلام
من جهته، يؤكّد الدكتور في كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة جوزيف عسّاف أنّ "كلّ ظاهرة عنفيّة في الإعلام هي ظاهرة تتناقض مع العمل الإعلاميّ الصحيح، الذي هو بالأساس عمل معرفة، قائم في أقصى حالاته على ما يُسمّى بالجدليّة التي قد تضعف أو تقوى حدّتها".




ويهاجم عسّاف بشدّة "وسائل الإعلام التي تعمد بغالبيّتها إلى خلق الجوّ السلبيّ بين المتحاورين من أجل زيادة نسبة المشاهدين"، مضيفاً أنّه "عندما يصل الاحتقان في الحوار إلى نقطة اللا عودة، قليل من الإعلاميّين يستطيع عندها إعادة ضبط الأمور، فيما تؤول الأمور عند الغالبيّة منهم إلى المحظور". ويشدّد في هذا السياق على ضرورة أن يشكّل الإعلاميّون قوّة تستطيع أن تبعد الواقع السياسيّ عن هذه العنفيّة، مردفاً: "بمعنى آخر، لا يجب على الإعلاميّ أن يستدرج السياسيّين المتحاورين إلى مواقف حادّة، لإثارة المشاهدين، بل عليه طرح الإشكاليّة التي يريد معالجتها بشكل عقليّ وعلميّ ومنطقيّ".
غير أنّه في المقابل يؤكّد أنّه "في ما يتعلّق بنشر وسائل الإعلام لأحداث العنف الكلاميّ والجسديّ بين السياسيّين والتي لا دخل لهذه الوسائل في الوصول إليها أو في خلق الجوّ المؤاتي لها، كنقل أحداث إشكال حصل بين نائبين في المجلس النيابيّ على سبيل المثال لا الحصر... ففي هذه الحالات، من الطبيعيّ أن يقوم الإعلام بنقل الحقيقة كما هي، وهو ليس مذنباً على هذا الصعيد إذ إنّ المشكلة هنا هي لدى السياسيّين وليس لديه".
من ناحية أخرى، يرى عسّاف أنّ "المشكلة الحقيقيّة على المستوى الإعلاميّ تكمن في عدم وجود إعلام لبنانيّ يقوم برسالته الإعلاميّة كما هو مفترض، خصوصاً أنّ القوانين الإعلاميّة لا تُطبّق ومواثيق الشرف لا تحترم".
ويبدي أسفه لواقع أنّه "لا يمكن للمجلس الوطنيّ للإعلام أن يلعب دوراً حقيقيّاً في تصويب عمل وسائل الإعلام، في ظلّ الواقع السياسيّ الحاليّ"، مشيراً إلى "الخلل الأساسيّ الذي أرساه قانون الإعلام المرئيّ والمسموع الذي وزّع المؤسّسات الإعلاميّة حصصاً بين السياسيّين"، ليستدرك قائلاً: "إذا ما طُبّقت القوانين الإعلاميّة في لبنان، سوف تُحلّ 60 إلى 70 % من المشاكل التي يطرحها هذا التحقيق، لكي لا أقول 100% منها، بما أنّه يبقى هنالك دوماً من ثغرات معيّنة، هنا وهناك".
ويخلص إلى أنّ "المطلوب في لبنان هو رأس مال ليبراليّ بإمكانه تأمين التمويل اللازم لإعلام متنوّر".
 
غياب الحياة السياسيّة السليمة
بدوره، يعتبر الصحافيّ حبيب يونس أنّ "للعنف الكلاميّ والجسديّ على صعيد الحياة السياسيّة اللبنانيّة، خلفيّات متعدّدة، أوّلها غياب الحياة السياسيّة السليمة المتمثّلة بأحزاب سياسيّة حقيقيّة، إلى حدّ أنّه بات لدينا غالبيّةٌ ممّا يُسمّى ب"نوّاب الصدفة" في زمن قليل عليه أن نصفه بالرديء".
ويردف: "هذا بالإضافة إلى الانقسام العموديّ الذي تشهده البلاد، خصوصاً أنّ ترسّبات الحرب الأهليّة لا تزال حاضرة في نفوس عامّة الناس"، مضيفاً: "من هنا، يتظلّل بعض السياسيّين بهذا الانقسام الحادّ ويأخذونه حجّة من أجل الهجوم اللا أخلاقيّ على خصومهم السياسيّين، بهدف كسب شعبويّ من هنا أو حتّى مادّيّ ممّن يعملون بحسب توجيهاته، من هناك".



أمّا على المستوى الإعلاميّ-السياسيّ، فيحذّر يونس من "خطورة ارتهان وسائل الإعلام، مرئيّة كانت أم مسموعة أم مكتوبة، لرؤوس الأموال السياسيّة التي تحوّلها إلى أداة بين يديها، فتسعى هذه الوسائل بالتالي إلى شنّ أعتى الهجومات على خصوم من يموّلها، وذلك بكلّ الطرق الأخلاقيّة واللا أخلاقيّة المتاحة، ممّا يساهم في زيادة الاحتقان على صعيد السياسيّين كما على صعيد عامّة الناس، الأمر الذي يؤمّن الأرضيّة الخصبة لانتشار هذه الظاهرة العنفيّة أكثر".
ويتساءل "كيف أنّ صحيفة تكلّف ناشرها 3500 ليرة لبنانيّة لكلّ عدد، تُباع في الأسوق المحليّة بألف أو ألفي ليرة فقط؟"، منوّهاً في المقابل بالنموذج السويديّ حيث تقوم الدولة السويديّة في آخر كلّ سنة بكشف حساب حقيقيّ على الصحف كلّها، وتغطّي بالتالي خساراتها الماليّة إذا ما وُجدت، وذلك لكي تنأى بهذه الصحف عن الارتهان لأيّ طرف.
ويتابع: "أمّا في لبنان، فظاهرة الارتهان قديمة جدّاً غير أنّها باتت ظاهرةً أكثر في أيّامنا هذه بفعل تكاثرها. وأذكر في هذا الإطار يوم انتقل الرئيس الراحل شارل الحلو من قصر سنّ الفيل إلى قصر بعبدا في أواخر العام 1969، فدعا الصحافيّين المعتمدين في القصر الرئاسيّ إلى لقاء تكريميّ، حيث غمز من قناة ارتهان غالبيّتهم إلى الخارج عبر قوله لهم مرحّباً: "أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان" ".
أمّا في ما يتعلّق بارتدادات هذه الظاهرة العنفيّة على السياسيّين لجهة نظرة الرأي العامّ تجاههم، فيرى يونس أنّ "السياسيّ يسعى بطبيعة الحال من خلال تصاريحه ومواقفه إلى بثّ الحماسة الدائمة في صفوف مناصريه، غير أنّه يتوجّه بالدرجة الأولى إلى الشريحة الوسطيّة أو الحياديّة من أجل استقطابها، وليس إلى مؤيّديه أو معارضيه، باعتبار أنّه من شبه المستحيل أن تتبدّل مواقف هاتين الشريحتين تجاهه".
ويضيف: "من هنا، من المنطقيّ ألّا تصبّ الظاهرة العنفيّة في مصلحته لو كان الرأي العامّ اللبنانيّ واعياً وذا حسّ نقديّ، غير أنّ غالبيّة اللبنانيّين للأسف ليست على هذا المنوال. عليه، تؤثّر هذه الظاهرة سلباً على من يشارك فيها من سياسيّين، ولكن ليس بالمقدار المطلوب لتغيير واقعنا الرديء".
ويلفت في نفس الإطار إلى أنّ "هذه الظاهرة وإن لم تؤثّر سلباً كما يجب على القيادات السياسيّة، فهي تؤثّر بطبيعة الحال بشكل سلبيّ جدّاً على القواعد الشعبيّة المؤيّدة لهذه القيادات، عبر تزكية الاحتقان في نفوسها، ما قد يبشّر بمشاكل كثيرة في حال استمرّ الإمعان فيها، خصوصاً أنّ المنطقة كلّها تغلي من حولنا".
ويختم بتأكيد أنّ "المطلوب هو من ناحية أولى العودة إلى المفهوم الحقيقيّ لطبيعة العمل السياسيّ السليم، كما تحلّي وسائل الإعلام من ناحية ثانية بالمسؤوليّة تجاه الرأي العامّ الذي تتوجّه إليه، بحيث إنّ الحريّة الإعلاميّة يجب أن تكون مقرونة دائماً بالحقّ والحقيقة والمسؤوليّة".
 
في المحصّلة
وفي محصّلة لكلّ ما تقدّم، يتبيّن لنا أنّ ظاهرة العنف الكلاميّ والجسديّ في الساحة السياسيّة اللبنانيّة هي على مستويات ثلاثة من المقاربة: مستوى اجتماعيّ، إعلاميّ وسياسيّ.
فمن جهة أولى، إنّ النزعة العنفيّة بشكل عامّ هي ذات خلفيّة تاريخيّة لدى مختلف شعوب العالم، وكذلك هو الحال في ما يخصّ ظاهرة العنف الكلاميّ والجسديّ في لبنان حيث تشمل هذه الظاهرة منذ القدم وحتّى اليوم كلّ المجالات الحياتيّة ومن ضمنها المضمار السياسيّ. غير أنّها على الصعيد السياسيّ، لم تكن بنفس المنسوب المرتفع في ما سبق من مراحل، لكنّ وتيرتها عادت وارتفعت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة.
من جهة ثانية، يساهم الإعلام، في أيّامنا هذه، في تزكية التوتّر القائم على الساحة السياسيّة وذلك بفعل ارتهانه لجهات سياسيّة مختلفة وبالتالي نطقه باسمها، في ظلّ انقسام عموديّ تشهده البلاد. هذا وتتعمّد وسائل الإعلام في الوقت عينه خلق الأرضيّة الخصبة لهذه الظاهرة، أثناء الحوارات السياسيّة التي تقيمها، بغية زيادة نسب مشاهديها، وإن لم تكن تتحمّل في المقابل أيّة مسؤوليّة في ما يخصّ نقلها لمظاهر العنف السياسيّ التي لا دخل لها مباشرةً في وصول السياسيّين إليها.
ففي هذا الإطار، تكمن المشكلة لدى السياسيّين أنفسهم وليس لدى وسائل الإعلام التي تنقل حقيقة ما يجري ليس أكثر، بحيث إنّ لهذه الظاهرة العنفيّة خلفيّات سياسيّة أيضاً، تعود جذورها إلى غياب الحياة السياسيّة السليمة، كما إلى غياب الثقافة السياسيّة والوعي المطلوب لدى عامّة المتلقّين الذين غالباً ما ينجرّون مع الأحداث العنفيّة، بدلاً من أن يحاسبوا ديمقراطيّاً من يشارك فيها، ما ينذر بخطر نشوب مشاكل جرّاء الإمعان أكثر في هذه الظاهرة، خصوصاً أنّ المحيط بأسره يغلي على صفيح اللا استقرار.
أمّا في ما يتعلّق بكيفيّة الحدّ منها، فبمعزل عن مدى إمكانيّة الوصول إلى ما سوف يتقدّم أو عدمه، فإنّه لمن الضروريّ حقيقةً العمل على ترشيد الثقافة اللبنانيّة بحدّ ذاتها لجهة التوقّف عن اعتبار العنف، أكان كلاميّاً أم جسديّاً، من "كماليّات" اليوميّات اللبنانيّة، إلى نشر ثقافة الحوار والإصغاء إلى الآخر كما تقبّل رأيه أيّاً يكن. كذلك، من الضروريّ العمل على زيادة الوعي السياسيّ لدى المواطنين، بهدف الوصول إلى مرحلة يستطيعون فيها أن يحاسبوا الطبقة الحاكمة على أخطائها بالشكل الديمقراطيّ المطلوب، بدلاً من أن ينجرّوا معها إلى أتون الخلافات والمظاهر العنفيّة التي يتوسّلها السياسيّون من أجل مصالح خاصّة ليس إلّا.
إلى ذلك، من الضروريّ إيجاد رؤوس أموال ليبراليّة بإمكانها تحرير وسائل الإعلام من الارتهان إلى المرجعيّات السياسيّة. وعلى خطّ مواز، من الضرويّ أيضاً أن تعود وسائل الإعلام وإعلاميّوها للوقوف على أخلاقيّات رسالتهم الصحافيّة، فيتحمّلوا المسؤوليّة الاجتماعيّة الملقاة على عاتقهم لجهة ترشيد الرأي العامّ وإحاطته بكلّ ما يصبّ في إطار مصلحته العامّة، بعيداً من النفس المركنتيليّ البحت الذي يسيطر على عقولهم.
وفي الوقت عينه، يجب إعادة تفعيل دور المجلس الوطنيّ للإعلام، كما تطبيق القوانين الإعلاميّة بحذافيرها، خصوصاً أنّ تطبيقها كاملةً سوف يسدّ غالبيّة الثغرات التي يعاني منها الجسم الإعلاميّ.
وأخيراً، واجب على المعنيّين السعي بكلّ ما أوتيهم من قوّة إلى تعميم الأسس الحقيقيّة لمفهوم السياسة على اللبنانيّين أجمعين، من سياسيّين ومواطنين عاديّين، بغية الوصول إلى حياة سياسيّة سليمة ودولة فعليّة بكلّ مقوّماتها المطلوبة، الأمر الذي سيكون كفيلاً لوحده إذا ما تحقّق في يوم من الأيّام، بإيجاد الحلول اللازمة لغالبيّة ما نعاني منه من ظواهر سلبيّة في مجتمعنا اللبنانيّ، انطلاقاً من سلطة الدولة وسيادة القانون.
تحقيق MAR 15, 2012
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد