إن ولجنا إلى التفسير المعجمي المجرد المطلق لكلمة إلتزام، فنرى إلى حد ما أنه مرادف لمنطق الإعتناق والإنتماء. يقول الرئيس ساركوزي في كتابه "Temoinage"، أن السياسة كحركية هي عمل جماعي نحو هدف مشترك. لكن مبدأ الإلتزام، في الأنظمة الديمقراطية كالنظام اللبناني، يصطدم بدرجة الوعي لدى المواطن العادي المدعو للاختيار إنتقائياً.
الإلتزام هو مدخل لتحقيق الهدف السياسي للجماعة عبر ممارسة السلطة: فالسياسة إذاً، هي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة (دايفيد استون ).
أما القوات اللبنانية، وبعدما اطلقت ورشة النظام الداخلي وفتحت باب الإنتساب، فهي التزمت إعتبار الانسان المؤسسة الأولى التي يتمحور حولها أي هدف أو إعتبار مرحلي أو عابر أو حتى تأسيسي ومستمر. هذا بالظبط ما سمعته من ايلي كيروز عام ٢٠٠٨.
لكن أبعاد الإنتساب لا تقتصر على إستمارة أو شروط متوافرة أو حتى على بطاقة أو قسم يمين. وبالعودة في الذاكرة إلى عقدٍ من الزمن، حيث كانت القوات، "محظورة " و"منحلة".
لم يمنع ذلك حينها، أن يربى جيل بأكمله على مبادئ هذا الحزب، ولم يمنع بيان الحل وسحب العلم والخبر الذي تلاه ميشال سماحة عقب جلسة مجلس الوزراء الشهيرة في تاريخ ٢٣/٠٣/١٩٩٤، من أن يخرج الألاف من أمثال رمزي عيراني وغيره من كنف الإضطهاد والتشرذم.
وفي المقلب الأخر، لم يردع الإلتزام والتاريخ النضالي الكبير للبعض من أن ينكر القوات قبل صياح الديك ومن أن ينقل البارودة من كتف إلى أخر، فها هم المزايدون القدامى، يلبسون الكوفية الفلسطينية حول أعناقهم ويجلسون في المقاعد الأمامية في مجمع سيد الشهداء وفي ملعب الراية في الرويس، علهم يحظون بفتات المائدة يوزع عليهم من أولياء نعمتهم الجدد.
بيت القصيد فيما اسلفت، هو أن الإلتزام بدأ منذ تأسيس القوات ولم ينقطع أبداً. أليس المكوث أحد عشرة عاماً تحت الأرض، رفضاً للتطبيق الأعوج لإتفاق الطائف والممانعة في إعطاء غطاءً مسيحياً للاحتلال السوري في لبنان إلتزاماً؟ أليس رفض التوزير والسلطة، على قاعدة "الوزارة أم النظارة"، وتحمل الإلغاء والنفي والتنكيل والإغتيال عوضاً عن المشاركة في اقتسام غنائم المحاصصة قمةً في الإلتزام؟
لقد كان حافظ الأسد بحاجة إلى شريك مسيحيٍ قوي، لكي يتم إطباق سيطرته على لبنان، بعدما توافر له هذا الشريك في باق الطوائف الاخرى، وقد كان مستعداً لأن يغدق خيرات السلطة على هذا الشريك، لكن القوات لم تقع في فخ "الإنحناء مع الريح" ودفعت الثمن بملء ارادتها، أليس هذا إلتزاماً أيضاً؟
إن أبعاد الإنتساب الحالية، هي تنظيمية لوجستية تتماهى مع النظام الداخلي الجديد ومع ورشة الاعداد الفكري المستمرة. على المنتسب أن يعي واجباته وحقوقه والدور المناط به على مستوى الكوادر والأفراد في الهيكلية والبيروقراطية الحزبية. أما الروحية القواتية فليست بحاجة إلى تعديل ولا تجديد، هي نفسها منذ ما قبل الفتوحات والمماليك والعثمانيين ومنذ أيام الكنيسة الاولى والمسيحيين الأوائل، روحية جماعية غير منكفئة، حاضرة وريادية، متماهية تماماً مع شعار "قوة في العقيدة، عمقٌ في الإيمان، صلابة في الالتزام".
القوات تأبى أن يكون أفراد مجتمعها وبيئتها، كائنات بيولوجية تأكل، تشرب وتنام، لا طعم لها ولا رائحة ولا لون، تجلس على شرفة التاريخ، تتفرج على الأجنبي والغريب يرسم لها مصيرها ويقرر مستقبلها. القوات ليست مدرسة إنكفاء وذمية ومن هنا، قول سمير جعجع في الثمانينات وفي أحد الإحتفالات الحزبية: "يجب على المجتمع بأسره تحمل مسؤلياته وليس أن يتحمل ٥ ٪ من المجتمع العبء عن الجميع".
أما في قراءةٍ أفقية لخطاب الانتساب ، فاكتفي بتكرار وإقتباس ما قاله رئيس الهيئة التنفيذية في هذا الشأن: "البناء على رمل الشعارات الجوفاء ليس من عاداتنا ولا من شيمنا، القوات ليست حزب المناصب ولا حزب الدجالين ولكن هو حزب واضح القوات لا يمكنها الا أن تكون على صورة بشير وآلاف آلاف الشهداء مثل حد السيف ثابتة بمبادئها ومتحركة مع التطور ومتطلبات الحياة السياسية ". وفي قوله عن أن القوات حليف شريف وخصم شريف، فهنا لا بد من أن استذكر، ما نسب إلى رئيس الجمهورية المصري أنور السادات في قوله إلى الاسرائيلين خلال زيارته إلى القدس ، "إن كنتم نوار فأنا أنور ، وإن كنتم سادة فأنا السّادات !".