تتألف الدولة من ثلاثة أركان أساسية: الارض، الشعب والسلطة. لذلك لا دولة من دون سلطة، ولا سلطة من دون مَن يحكمها، وهذا الحكم لا يكون منزلاً بل مختاراً من قبل الشعب من خلال الانتخابات. لهذا السبب قررت إختيار هذا الموضوع لمعالجته، نظراً لأهميته وللجدل الذي يثيره منذ فترة طويلة في لبنان والذي تزداد حدّته يومياً مع اقتراب موعد الانتخابات.فنحن نشهد اليوم،تداول في عدة قوانين انتخابية للوصول الى أفضلها واكثرها ديمقراطية وعدالة لكافة الاطراف. وهنا تطرح التساؤلات التالية: " لماذا يتعذب اللبنانيون اليوم للتوافق على قانون موحّد؟ ما هي القوانين المطروحة؟ وهل الانتخابات في لبنان تمارس بشكل ديمقراطيّ فعليّاً؟ "
ينقسم الموضوع الى ثلاثة أقسام. القسم الأول "المفاهيم"، وينقسم الى فقرتين تعرّف الأولى عن مفهوم الانتخابات، والثانية تطلعُ على مفهوم الديمقراطية. أما القسم الثاني "التطوّر التاريخي"، ففي فقرته الاولى يسود التطور التاريخي للانتخابات في لبنان، منذ بداياتها حتى اليوم مع التطرق الى القوانين المتّبعة سابقاً. وتكون الديمقراطية التي رافقت ازمنة الانتخابات وتطوّرها التاريخي محور الفقرة الثانية. قبل الوصول الى الخاتمة، خلاصة هذا البحث، سوف نتوقّف عند القسم الثالث، الذي يعالج في فقرته الاولى القوانين المطروحة حديثاً ورضى الاطراف الاساسية عنها. كما يعالج في فقرته الثانية، ديمقراطية الانتخابات ويحاول الاجابة عن الاشكالية المطروحة في البداية. وفي النهاية، لا يصل بحثنا الى هدفه، ان لم نتوصل الى نتيجة واقعية وحل منطقي يكون الاقرب الى الحياد.وبسبب حجم هذا الموضوع ونظراً لأهميته، سوق يعرض في مرحلتين: الاولى تعالج المفاهيم والقوانين التي طبّقت في لبنان منذ بداية اجراء اللانتخابات. والثانية نعرض فيها التطور التاريخي للديمقراطية بالاضافة الى القوانين المطروحة وديمقراطية النتخابات في لبنان.
القسم الأوّل: مفاهيم ونشأة:
الفقرة الاولى: مفهوم الانتخابات ونشأتها
الانتخابات وسيلة من وسائل اتخاذ القرارات السياسية وتعني الإجراء الرسمي لاختيار شخص ما لوظيفة رسمية، أو قبول أو رفض مقترح أو قرار سياسي ما عن طريق التصويت، و قد تزامن انتشار ممارسة الانتخابات للتعيين في المناصب الرسمية مع ظهور الحكومات ذات التمثيل الشعبي في أوروبا وأمريكا الشمالية في القرن السابع عشر.. ويعني ذلك أن يختار الناخب أحد الأشخاص، أو أحد الخيارات، أو المقترحات المتاحة له فيما يتعلق بالأمور العامة للبلاد. ويعد وجود الخيارات سواء في المرشحين أو في القرارات ضرورة من ضرورات الانتخابات وبدونها لا يمكن تسمية إجراء ما إجراء انتخابي حقيقي، فلا تستقيم الانتخابات بوجود مرشح واحد.
ينظر الكثير من المؤيدين للانتخابات من المشرعين، على أنها تلبية لحق من حقوق الإنسان التي وردت في ميثاق حقوق الإنسان وهو “حق الإنسان وحريته في المشاركة في إدارة شؤون المجتمع الذي يعيش فيه”. ولذلك ينظر للانتخابات على أنها قضية سياسية يقيم بموجبها أداء الحكومات السياسي وتمارس الرقابة عليها. يعزز الانتخاب احساس المنتخب بالانتماء الوطني، ويظهر أهميته كفرد في المجتمع ما يزيد من روح الاعتزاز والفخر لديه. كما أن الانتخابات تخلق عنده نوعاً من التقبل والحماسة للقرارات التي تتخذها السلطة المنتخبة. ويتجلى فيها التفاخر بالوطن والتعبير عن الروح الوطنية في الشعارات الانتخابية المختلفة. كما أن الانتخابات تساهم في تسليط الضوء على القضايا الوطنية الهامة. تزود الانتخابات السلطة السياسية بالمشروعية المطلوبة لأنها تضمن تمثيل السلطة السياسية للمجتمع كله عبر الأفراد الممثلين لهم ويشاركون في اتخاذ القرار. لذلك تتحمل الأمة كلها كافة المسؤولية عند اتخاذ القرارات. كما أنه ينظر لها بأنها وسيلة للإصلاح السياسي بالسماح بمشاركة الشعب، فهي تساعد البلاد على التنظيم من الناحية التشريعية وذلك من خلال دراسة القوانين بشكل دقيق ومفصل.
وبالرغم من ذلك فإن هناك اختلافاً كون الانتخاب “حقاً” من حقوق الفرد كمشاركة منه في إدارة المجتمع، أو كونها “وظيفة” يكلف بها.. فإذا كانت حقاً مكتسباً وجب أن يتساوى جميع أفراد المجتمع في هذا الحق، وللفرد حق التصرف به أو التفويض فيه؛ أما إذا كانت وظيفة يكلف بها المواطن وليست ، فإنه مكلف بأدائها ولا يجوز له التصرف فيها أو المطالبة بها قانونياً. ولذلك فإن دساتير الدول وأنظمة الحكم فيها تفرق بين الوضعين وبين تحديد وتعريف من يكون لهم هذا الحق أو من يشملهم التكليف إذا كان واجباً.
ومن هنا تظهر أهمية التفريق بين شكل الانتخابات ومضمونها. فيمكن أن تفرغ الانتخابات من مضمونها وتكون شكلية فقط كما يمارس هذه الأيام في بعض دول العالم الثالث، ويمكن أن تكون انتخابات ذات محتوى حقيقي يساهم في التنظيم السياسي الحقيقي للمجتمع، وفي تطوير نظمه التشريعية.يرى علماء الاحصاء ان الانتخابات الحقيقية ذات الشكل والمضمون الفعليّ موجودة فقط في نصف البلدان التي تجرى فيها انتخابات وحتّى اقل من هذا العدد.هناك من يرى في بعض الدول الغربية أن خيارات الانتخابات ليست حقيقية، ولذلك فهم لا يكلفون أنفسهم عناء الذهاب لصناديق الاقتراع.
فالهدف الأساسي من الانتخابات هو الوصول إلى المشاركة السياسية التي تفضي للاستقرار السياسي والاجتماعي ولتهيئة ظروف ملائمة للنمو والتقدم، والقضاء على الاستفراد بالسلطة والحد من القرارات الفردية العشوائية التي لا يوافق عليها المجتمع. ويشترط في النظام البرلماني عموماً التأكيد على حقوق الأفراد وتجنب التعدي عليها من الدولة مهما كانت أكثريتها البرلمانية، لأن حقوق الفرد وحريته شرط أساسي لنجاح العملية البرلمانية التي تستند عليه، ولذلك ينص على هذه الحقوق في الدساتير ويمنع المساس بها.
*نشأة النظام البرلماني او البرلمان
لم يكن البرلمان بدعة فكرية أو ابتكارا لأحد الفلاسفة وإنما جاء وليد تجارب وتاريخ طويل، فالأحداث التاريخية هى التى صنعته وحددت ملامحه الحالية.
ولم يظهر البرلمان مرة واحدة، وإنما خاض مراحل متعددة، كان أكثرها مليئا بالصعاب والتحديات، استطاعت البرلمانات خلالها انتزاع سلطاتها من الملكيات المطلقة ونظم الحكم الاستبدادية.. ومع ظهور واستقرار البرلمان عرف العالم نوعا جديدا من نظم الحكم هو الحكومات البرلمانية، وتواصلت مسيرته على طريق الديمقراطية والمشاركة والتعددية السياسية، وحكم الأغلبية.
ويشير المؤرخون الى أن الحياة البرلمانية لأى دولة هى صورة صادقة لواقع وحقيقة مجتمع هذه الدولة، حيث أن معظم التيارات السياسية والأفكار والآراء والمبادئ والقيم التى تسود فى هذا المجتمع تنعكس سلبا وإيجابا على البرلمان وأعماله ودرجة فعاليته.
وقد بلغ تطور دور البرلمان فى بعض الدول مرحلة غير مسبوقة، حتى قيل فى البرلمان البريطانى مثلا أنه يستطيع أن يفعل كل شىء عدا تحويل الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل.
مثلاً بدأ البرلمان الإنجليزى فى مطلع القرن الثالث عشر يطالب بحقه فى التشريع دون تركه للملك، الذى لم يعد معبرا عن إرادة الشعب. وفى عهد الملك شارل الأول، حدث الصدام بينه وبين مجلس العموم اضطر لدعوة البرلمان لحل المشاكل. ومنذ ذلك الوقت بدأ يتطور دور البرلمان .ومع اندلاع الثورة الإنجليزية الكبرى، وكانت البدايات الحقيقية للبرلمان.
كذلك، فقد ظهر الكونجرس الأمريكى فى غضون الثورة التى انتشرت فى أواخر القرن الثامن عشر فى المستعمرات البريطانية، وانتهت بإعلان الاستقلال وتأسيس اتحاد بين عدد من المستعمرات المستقلة. كما ارتبط الكونجرس بمرحلة هامة فى التاريخ الأمريكى وهى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، حيث كان مركزا للقوى التى تؤيد الاندماج فى دولة واحدة، حتى تم تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، الحالية.وفى فرنسا، بدأ هذا التطور بما يسمى برلمان باريس، الذى ضم عددا من النبلاء، ثم اصطدم مع الملك منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحدى سلطته المطلقة، فتعرض أعضاؤه للنفى والاضطهاد. ومع تأزم الحالة المالية للملك لويس السادس عشر، اضطر للعمل على تحسين علاقته مع النبلاء والشعب معاً، فقبل بتأسيس البرلمان وسلطاته، على ان يكون هذا البرلمان تعبيرا عن إرادة الشعب.كما لم تكن مصر بعيدة عن هذا التطور، وإنما شاركت فيه و تأثرت به. لم تسلم مصر من تطورٍ في هذا الموضوع، ففي منتصف القرن التاسع عشر، تبلور الشكل النيابي الأول فى ظل حكم محمد علي، ومن بعده نشأت المؤسسة النيابية بالمعنى السياسى منذ عام 1866، وبعد ثورة 23 يوليو 1952،شهدت مصر مرحلة حافلة من ازدهار الحياة البرلمانية، عرفت بإسم مرحلة الديمقراطية البرلمانية.
الفقرة الثانية: مفهوم الديمقراطية ونشأتها
الديمقراطية هي حكم الشعب, من قبل الشعب ومن اجل الشعب. اذ انّها نظام سياسي وتنظيم اجتماعي حيث الشعب يملك السلطة، وللجميع الحق في المشاركة بهذه السلطة. كلمة ديمقراطية هي يونانية الاصل وتتألّف من كلمتين: démos وتعني عامة الناس،وkratia وتعني حكم. وبهذا تكون الديمقراطيةdémocratisas تَعني لغةً 'حكم الشعب' أو 'حكم الشعب لِنفسهِ'.ويطلق مصطلح الديمقراطية أحيانا على معنى ضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطيةٍ، أو بمعنى أوسع لوصف ثقافة مجتمع. والديمقراطيّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية معيّنة تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلميا وبصورة دورية. تقوم الديمقراطية أساساً على مبدأ سيادة الأمة، بمعنى أن الشعب والأمة يشكل في مجموعه كياناً معنوياً مستقلاً عن الأفراد.وهنا يجب تسليط الضوء ، أنّ الديمقراطية هي حكم الاغلبية وليس الاكثرية فهي توفر حمايةُ حقوق الأقليات والأفراد عن طريق تثبيت قوانين بهذا الخصوص بالدستور، ويتجلّى كلّ ركنٍ في عدَدٍ من المفاهيم والمبادِئ.
نسمع كثيراً ان البعض يستعمل بدلاً من "الديمقراطية"، كلمة ليبيرالية لأنها النظام السائد للديمقراطية في دول الغرب، ولكنّ هذا الاستخدام يعتبر خلطا شائعا في استخدام المصطلح سواء في الغرب أو الشرق، فالديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأفراد والأقليات.
أولى أشكال الديمقراطية ظهرت في جمهوريات الهند القديمة والتي تواجدت في فترة القرن السادس قبل الميلاد وقبل ميلاد بوذا. وكانت تلك الجمهوريات تعرف بالـ ماها جاناباداس، ومن بين هذه الجمهوريات فايشالي التي كانت تحكم فيما يعرف اليوم ببيهار في الهند والتي تعتبر أول حكومة جمهورية في تاريخ البشرية. وبعد ذلك في عهد الإسكندر الكبير في القرن الرابع قبل الميلاد كتب الإغريق عن دولتي ساباركايي وسامباستايي، اللتين كانت تحكمان فيما يعرف اليوم بباكستان وأفغانستان، " وفقاً للمؤرخين اليونانيين الذين كتبوا عنهما في حينه فإن شكل الحكومة فيهما كان ديمقراطياً ولم يكن ملكياً". معظم الديمقراطيّات القديمة نمت في مُدنٍ صغيرة ذات ديانات محليّة أو ما يسمَّى ب المدينة - الدولة. وهكذا فإِنّ قيام الإِمبراطوريات والدول الكبرى مثل الإِمبراطورية الفارسيّة والإِمبراطورية الهلّينية - الرومانيّة والإِمبراطورية الصينية والإِمبراطورية العربيّة - الإِسلامية والإِمبراطورية المغولية في العصور الوسطى وفي معظم البلاد التي كانت تضمُّ الديمقراطيات الأولى قد قضى علَى هذه الدويلات الديمقراطية بل علَى فُرص قيامها أيضاً. لكنَّ هذا لا يعني أنَّ تطَوّراً بٱتجاهِ الديمقراطية لم يحصل في العصور الوسطى. ولكنّ معظم هذا التطوّر حصل علَى مُستوَى القِيَم وحقوق الأفراد الذي نتج عن قِيَم الليبرالية التي نشأت مع فلاسفة التنوير توماس هوبز وجون لوك وإيمانويل كانط قبل تحقيق تقدم ملموس في الديمقراطية وهو الذي أدى إلى ازدهار نموذج الديمقراطية الليبرالية دون غيرها من الديمقراطيات في الغرب.وقد ساهمت الدياناتُ الكبرَى كالمسيحية والبوذية والإسلام في تَوطيد قِيَمٍ وثقافاتٍ ساعدت علَى ازدهار الديمقراطية فيما بعد.