الأرمن بين عشق قومي تاريخي وانتماء وطني حاضر (الجزء الأول)
تحقيق APR 24, 2012
الأرمن شعب عريق، جذوره ضاربة في التاريخ، ينتمي الأرمن إلى العرق الآري، ويعود وجودهم في أرض أرمينيا التاريخية (الهضبة الأرمنية) الممتدة في الأجزاء الوسطى والشرقية من آسيا الصغرى إلى الألف الثالث ق.م، حسب الدراسات اللغوية والآثارية الحديثة التي تتفق مع التقليد المتوارث القديم. وتمتد أرمينيا التاريخية من غرب منابع نهر الفرات وحتى بحر قزوين وإيران،ومن سلسلة جبال القوقاز، حتى سلسلة جبال طوروس الأرمنية على حدود العراق الشمالية،ويُعد جبل آرارات الذي رست عليه سفينة نوح حسب الكتاب المقدس أهم جبال أرمينيا،علما ان معظم الارمن في لبنان ينحدرون من منطقة كيليكيا التي توجد حاليا ضمن الدولةالتركية ولا تعود اصولهم الى اراضي دولة ارمينيا الحالية التي زارتها او عادت اليهاقلة من ابنائهم.

ونظرا لاحداث تاريخية ضخمة هاجر عدد كبير من الشعب الأرمني وانتشر في دول مختلفة في القارة الاوروبية، الأميريكية وآسيا خاصة في لبنان وسوريا.

وانطلاقا من هذا الواقع التاريخي السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيفية اندماج هذه الاقلية الارمنية في مجتمع مختلف عنها كالمجتمع العربي؟


تاريخ ارمينيا وعلاقتها بالدول العربية من القدم وصولا الى تاريخ المجزرة  الارمنية وهجرتهم

أرمينيا تاريخياً وعربياً:

و تتميز العلاقات الأرمنية-العربية بوجود علاقات بين شعبيهما في الفترات التي كان للشعبين فيها دولته المستقلة. وتمتد تلك الفترات عبر 15 قرناًمن الزمان من القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن الرابع عشر بعد الميلاد. وخلالتلك الفترة تأسست علاقات سياسية، حميمة جداً في بعض الأحيان، بين الأرمن والعرب علىمستوى الدولة. بدأت تلك العلاقات، كما تدل على ذلك الوقائع التاريخية، من فترةالملك الأرمني ديكران الكبيرTigran the Great حتى سقوط مملكة كيليكية في القرن الرابع عشر.

كانت أرمينيا ابان حكم الملك ديكران الكبير (95-55 قبل الميلاد)واحدة من أقوى دول الشرق الأوسط. ففي الفترة بين 89-85 قبل الميلاد هزم الملك ديكران الفرس. وخضع عدد من ملوك الدول التي كانت حتى ذلك الوقت تابعة للفرس للملك الأرمني.

تخلت إيران عن بلاد ما بين النهرين لملك الأرمن. وكان الوضع غاية فيالتعقيد في سوريا، حيث عمت البلاد فوضى سياسية حادة. وما ذكر هوستينيانوسhustinianos   قرر الشعب الاعتماد على المساعدة الخارجية. وطالب بعض الناس باستدعاء ملك بونتوسPontos بينما فضل آخرون ملك مصر. إلا أنهم وافقوا جميعاً على الملك ديكران ملك أرمينياوهكذا طلب كبار القوم السوريون بدعوة الملك ديكران الكبير ليحكم سوريا. ويذكر المؤرخ هوفسيبوس بلافيوس أن ديكران دخل سوريا على رأس جيش قوامه 300 ألف مقاتل. ولميكتفي ديكران بضم شمال سوريا، بل أيضاً كيليكية وجنوب سوريا وفينيقية (لبنان) ومعها مدن بيروت واللاذقية وفلسطين. ويرى المؤرخ سترابو أن المملكة اليهودية كانت تعتمد على المملكة الأرمنية. وأكد المؤرخ أبيانوس أن منطقة الشرق الأوسط بأكملها حتى حدود مصر كانت تدين بالولاء للملك ديكران الكبير.

ظلت تلك المناطق ضمن المملكة الأرمنية حوالي 20 عاماً. ففيعام 66 قبل الميلاد عقدت في أرتاشاطArtashat عاصمة أرمينيا في ذلك الوقت، معاهدةبين أرمينيا وروما اضطر الملك ديكران بموجبها على التنازل عن جميع الأراضي العربيةوتسليمها لروما.

كانت تلك السنوات العشرون سنوات سلام، ساد فيها النظام والأمن في المناطق العربية وازدهر الاقتصاد والثقافة. وكانت تلك الفترة أول تجربة تاريخية للتعايش بين الأرمن والعرب في دولة واحدة. وبفضل هذه التجربة باشر الأرمن والعرب الاتصال المباشر فيما بينهم والذي أدى فيما بعد إلى فهم أفضل لأفكار الشعبين ورغباتهما وعاداتهما.

لقد أفرزت العلاقات الأرمنية-العربية البينية أمراً هاماً، أو لنقل أنه ظاهرة تاريخية فريدة. فطبقاً لبعض المصادر العربية والأرمنية كذلك التي تعود إلى الفترة من 136 قبل الميلاد إلى 216 بعد الميلاد كانت توجد امارة اسمها الرها. ويقول المؤرخ المصري فؤاد حسن حافظ في كتابه القيم تاريخ الشعب الأرمني منذ البداية حتى وقتنا الحاضر  أن امارة الرها كان يسكنها خليط من الأرمن والعرب وكتب يقول  خلال تلكالفترة (من عام 13-51 ميلادية) حكم الامارة الأرمنية-العربية ملكاً أرمنياً هوأبجار الخامسAbgar the V.  ويوافقه في الرأي المؤرخ الأرمني هوفهان زدراسكهاناكيرتسي في كتابه تاريخ الأرمن. ولكن للأسففإن المعلومات الخاصة بهذا الحديث غير المسبوق ضئيلة وليس بمقدورنا إلقاء الضوء علىتفاصيلها. ولكن تلك الحقيقة هامة جداً في حدّ ذاتها وتستحق قدراً أكبر من البحثوالتمحيص. وهي من ناحية أخرى

تظهر المستوى العالي الذي كانت عليه الاتصالاتالسياسية الأرمنية-العربية في تلك الأزمنة البعيدة.

مع بداية القرن السابع ظهرعلى ساحة التاريخ عملاق سياسي جديد هو الخلافة العربية. كانت الخلافة العربية نقطة تحول ليس فقط بالنسبة لتاريخ الشعب العربي ولكن أيضاً بالنسبة للشرق الأوسط بأكمله،بل أيضاً بالنسبة للعالم كله  ولم لا. فقد أدى قيام الامبراطورية العربية القويةإلى تغير ميزان القوى في العالم وخلق وضعاً جغرافياً سياسياً جديداً في منطقة الشرقالأوسط بأكملها. فقد أثر قيام الخلافة العربية بشكل جذري على مصير عدد من الدول والشعوب ومن بينهم الأرمن.

ادمجت أرمينيا في الخلافة العربية خلال السنوات (642-648). ومرة أخرى ظهر الأرمنوالعرب في دولة واحدة، ولكن في هذه المرة داخل دولة عربية. وكونت منطقة إداريةأسمتها أرمينية التي كانت تضم أرمينيا وجورجيا وألبانيا القوقازية(Arran).

كانت سياسة الحكام العرب تجاه الأرمن تتسم بالحذر وأحياناً بالحكمة. فلم يتبعواسياسة استيعاب الأرمن ولم يضغطوا عليهم لتغيير ديانتهم المسيحية والدخول فيالإسلام. ومن الأمور الهامة أيضاً أن الخلافة العربية لم تلجأ إلىتصفية طبقة الأمراء الأرمن، بل حافظت على حقوقهم وامتيازاتهم وفي بعض الأحيان كانتتترك لهم قواتهم العسكرية التي تعاونت مع القوات العسكرية العربية.

تمتعت أرمينيا بوضع خاص في دولة الخلافة والذي تأكد بإبرام معاهدة بين العرب والأرمن في عام 652، وقعها حاكم أرمينيا الأمير تيودور الرشتونيTheodor Rishtuni  وحاكم سوريا والخليفة القادم معاوية. ووصف المؤرخ الأرمني سيبيوسSebeos المعاهدة التي ضمنت لأرمينيا استقلالاً داخلياً بأنها  معاهدة سلام ويروي المؤرخ الأرمني شابوه بجراتوني قصة ذات مغزى عن التعاون العسكري بين القادة العرب والأرمنإذ يقول أن الأمير الأرمني جريجور أرتزروني أرسل إلى الخليفة فرسا وسيفا وعدة حربكإشارة على موقفه الودي تجاهه وتأييده له في حربه مع أعدائه.

في أواخر القرن التاسع دخلت العلاقات العربية-الأرمنية البينية مرحلة جديدة. ففيعام 885 أعلنت أرمينيا استقلالها. وسارعت دولة الخلافة العباسية بالاعتراف باستقلال أرمينيا كما أرسل الخليفة المعتمد تاجاً ذهبياً لأول ملك على أرمينيا المستقلة أشوت بجراتوني الأول مما يعد اعترافاً رسمياً به ملكاً شرعياً على دولة جارة مستقلة هيأرمينيا. واستمرت علاقات حسن الجواريين الدولتين حوالي 200 عام إلى جانب التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

ولكن هذه العلاقات انقطعت في القرن الحادي عشر عندما سقطت مملكة بجراتوني الأرمنية عام 1045 في أيدي الامبراطورية البيزنطية العدو اللدود لدولة الخلافة العربية.

وبسقوط الدولة الأرمنية ساء الوضع السياسي في الشرق الأوسط مما خلق ظرفاًمواتياً لتغلغل العديد من القبائل البدوية التركية من ألتاي ووسط آسيا. وتحت الضغط المتواصل من تلك القوات سقطت بغداد في عام 1256 ومعها دولة الخلافة العباسية. وادخرالتاريخ نفس المصير للامبراطورية البيزنطية. ففي عام 1453 استولى الأتراكالعثمانيون على القسطنطينية ومن ثم قامت الامبراطورية العثمانية على أنقاض مملكةأرمينية ودولة الخلافة العباسية.

وتلا سقوط مملكة بجراتوني وأثناء الأحداث التيذكرناها أعلاه وقع حدث غير عادي. فقد هاجر كثير من الأرمن إلى كيليكية على البحر المتوسط. وفي عام 1080 أعلن عن قيام إمارة أرمنية باسم مملكة أرمينيا فيكيليكية.

وهكذا قامت مملكة أرمينية جديدة وشرعت في إقامة علاقات سياسية وإقتصادية وتجارية وثقافية مع الدول العربية المجاورة وفي مقدمتها مصر. في عام 1323عقدت معاهدة تعاون بين مملكة كيليكية الأرمنية ودولة المماليك في مصر.

ولكن لا بد أن نلاحظ أن الوضع السياسي لم يعد ملائماً للمملكة الأرمنية في ذلك الوقت. ومن بين الأسباب التي أدت إلى ذلك حملات الصليبيين الذين حاولوا استخدام مملكة أرمينيا والدولة البيزنطية كقاعدة لأغراضهم السياسية والتي لا تمت بصلة إلىالسيد المسيح. ووضعت أفعال الصليبيين المملكة الأرمنية في كيليكية في موقف معقد أدى فينهاية الأمر إلى إفساد علاقاتها مع جيرانها. وفي عام 1385 سقطت أيضاً مملكة كيليكية الأرمنية.

كما أن جزءاً كبيراً من العلاقات الأرمنية-العربية يتمثل في مشاركة العديد من الأرمن البارزين في مختلف مجالات خدمة الدولة في الحكومة وفي الجيش وفي الدبلوماسية.... الخ، وفي ظل تقدير عربي كبيرهناك كثير من الحقائق تشهد على مساهمتهم الجادة والنافعة في تطور البلاد العربية وفي حل مشاكل سياسية وعسكرية وغير ذلك من المشاكل التي كانت تواجه العرب. ولقد أشاد المؤرخون العرب برجل دولة وقائد عسكري أرمني بارز هو ابن يحيى الأرمني.

وهناك أيضاً قائد الأسطول البارز الذي ينحدر من أصول أرمنية حسام الدين لؤلؤ، كما اعتبر فسطاط فهرام أحد بناة مدينة القاهرة.

ولقد شغل الأرمن مناصب مرموقة في عهد الدولة الفاطمية في مصر (909-1171). ومنبين هؤلاء بدر الدين الجمالي الأرمني الأصل. ويجدر بنا أن نتذكر أيضاً فهرامبهلفوني (بهرام الأرمني)، ذلك الأمير الأرمني الذي كان وزيراً للخليفة الحافظ(1130-1149) ومارس سلطات غير محدودة، وكان يلقب بتاج الدولة.

وفي لبنان كان لرجال الدولة الأرمن نفوذ واسع. في عام 1861 وفي أعقاب مذابح عام1860 وبناء على ما قررته القوى العظمى خاصة فرنسا وانجلترا، وافق السلطان العثماني على منح لبنان الحكم الذاتي. وفي 9 يونيو عام 1861 وقع السلطان العثماني في اسطنبول  القانون الأساسي للبنان  ومن ثم أصبحت المتصرفية اللبنانية. وطبقاً لهذاالقرار يكون منصب رئيس الإقليم المتصرف وممثل السلطان مقصوراً على شخص مسيحي كاثوليكي الذي يعينه السلطان بناء على توصية من القوى الأوروبية الكبرى. وكان أول متصرف تم تعيينه في لبنان أرمنياً وهو كارابيت أرتين داوديان والذي يعرف باسم أرتينأو داود باشا. وكان يعتبر حاكماً فعلياً للمتصرفية. وترك كارابيت داوديان سيرة طيبة عن شخصه وأعماله.

ظل وضع المتصرفية في لبنان قائماً حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عندما ألغته السلطنة العثمانية في عام 1914. وخلال تلك الفترة كان هناك 8 متصرفين 4 منهم كانوا منالأرمن وآخرهم المتصرف هوفهان كويومجيان.

في مصر تعاظم دور الأرمن في خدمة الدولة وارتبط ببعض التغيرات الجذرية في هذاالبلد. ففي عام 1805 أصبح محمد علي الحاكم الفعلي لمصر وان كان يخضع رسمياً للسلطان العثماني مع استمرار تبعية مصر للامبراطورية العثمانية. كان هدف محمد علي النهائي جعل مصر دولة مستقلة وإنهاء تبعيتها للامبراطورية العثمانية. وقام بعدة إصلاحات فيمجالات الاقتصاد والجيش والتعليم والثقافة.. الخ. ولقيت سياسة محمد علي الدعم الكامل ليس فقط من المصريين ولكن من الجنسيات الأخرى ومن بينهم الأرمن. وساعد التجار والسياسيين والمثقفين الأرمن محمد علي كثيراً في تنفيذ برامجه. وقدم الأرمن الأثرياء الدعم المالي لمشروعات محمد علي بما في ذلك حروبه ضد القسطنطينية. وفي عام 1837 أقام الأرمن أول بنك في مصر، وقاموا بترجمة كثير من الكتب من اللغات الأوروبية ونشرها باللغة العربية. فترجم أرتينشارقيان كتاب الأمير لميكيافللي بأمر شخصي من محمد علي. وكان محمد علي يقدر كثيراًقدرات الأرمن الفكرية وكفاءتهم ومهارتهم ومشاركتهم في مختلف نواحي النشاط في مصرومنحهم كل ثقته.

ولكن أبرز الشخصيات السياسية في مصر خلال فترة السبعينات وحتى التسعينات منالقرن التاسع عشر هو نوبار نوباريان باشا الذي عينه عدد من خديوي مصر رئيساً للوزراء عدة مرات. وبفضل جهوده ومواهبه وقدراته الفائقة تمكنت مصر من تحقيق إنجازات ضخمة في مختلف نواحي الشئون الداخلية والسياسة الخارجية.
و في ظل هذه الاحداث ظلت الدول العربية تحت الهيمنة العثمانيةطيلة أربعة قرون تقريباً منذ بدء الاحتلال في عام 1516 وحتى 1918.

في عام 1639وبعد حروب طويلة وقّعت إيران والامبراطورية العثمانية اتفاق في قصر شيرين لتقسيم أرمينيا. فقد ضمت أرمينيا الشرقية إلى فارس بينما ألحقت أرمينيا الغربية بالامبراطورية العثمانية. ومرة أخرى يجد الأرمن والعرب أنفسهم تابعين لدولة واحدة،ولكنها هذه المرة لم تكن دولتهم. ظل طغيان السلاطين العثمانيين سمة أكثر الفترات مأساوية في تاريخ الشعوب العربية والأرمنية والذي أثر سلباً على تطورها السياسي والوطني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

منذ بداية أربعينات القرن التاسع عشر ظهرت بوادر حركة جديدة في الحياة العامة للشعوب غير التركية داخل الامبراطورية العثمانية. وكانت تلك الحركة أكثر قوة وأفضل تنظيماً بين العرب. كانت حركة توعية سياسية وثقافية وحركة ولادة جديدة للشعوب العربية. وكانت تسمى نهضة. كان قادة النهضة العربية يتطلعون إلى الحرية والتخلص منقيود الحكم العثماني ويجاهدون للحفاظ على هويتهم العرقية ولغتهم وثقافتهم وتقاليدهم الوطنية والحيلولة دون تتريك العرب. وكانوا يحلمون بالتغلب على التخلف الذي ران علىالدول العربية وتسهيل تحول الدول العربية إلى دول حديثة ذات نظم اقتصادية وتعليمية وثقافية متطورة. لقد كانوا قادة تنوير حقيقيين.

كانت المراكز الرئيسة للنهضةالعربية توجد في سوريا ولبنان ومصر.

كان لأفكار النهضة العربية تأثير عظيم على الشعوب غير التركية وأولهم الأرمن،لأنهم قاسوا من نفس شرور الواقع السياسي العثماني المتمثل في سياسة السلاطين تجاه جميع الشعوب غير التركية. وقبل الأرمن الذين يعيشون في البلاد العربية مبادئ النهضة كأنها مبادئهم واعتبروها شعاع الأمل الذي يلوح من آخر النفق المظلم ومن ثم أيدوهامن قلوبهم.

ولقد شارك العديد من دعاة التنوير الأرمن زعماء النهضة العربية فيكفاحهم من أجل الاستقلال وقوبل هذا الموقف بالتقدير من جانب العديد من الكتاب العرب. يقول الكاتب اللبناني الشهير يوسف يزبك  شاركت مجموعة من النبلاء الأرمن في إحياء الحركة الأدبية من جديد والتي كانت قد بدأت عندنا في القرن الماضي وأشارإلى أن الدكتورGrigor Vardapet كان أحد مؤسسي كلية السوريين البروتستانت والتي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية في بيروت. كما أنه كان أيضاً أحد مؤسسي  جمعية نشر العلوم ورقي الفنون، التي أنشأت في عام 1847. وكان من بين أعضاء تلك الجمعية أرمني آخر هو ميخائيل فرج اللَّه الذي كان يستضيف اجتماعات الجمعية في منزله. ومن الشخصيات الأرمنية التي شاركت في النهضة العربية حنا أبجاريوس وهوفسيب باكوس ورزقاللَّه حسون أو حاسونيان وغيرهم. ولقيت مجهودات رزق اللَّه حاسونيان تقديراً كبيراً من متخصصين وذكر المستشرق الروسي ليف كاتلوفLev Katlov أن رزق الله حاسونيان كان أول من دعا إلى فكرة استقلال العرب.

ولكن جميع الباحثين في تاريخ العرب والنهضة أجمعوا على أن أهم الشخصيات البارزة في حركة النهضة العربية هو أديب اسحق أو باسمه الأرمني أديب زالماتيان . ويؤكد يوسف يزبك أنه لواستعرضنا كبار الشخصيات الثقافية التي كانت تعمل تحت لواء النهضة العربية فإننا لابد وأن نتذكر الصحفي الفذ والخطيب والكاتب والمترجم أديب اسحق والذي مات وهو دون الثلاثين من عمره. كما شارك في الثورة المصرية الوطنية ضد الاحتلال الانجليزي وذاع صيته في باريس ولندن وفي الشرق كله بفضل مقالاته.

كما لقي الدور الذي لعبه أديب اسحق في الحياة السياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التقدير من الباحث الفلسطيني إميل توما. فهو يعتبره رائد الفكر العربي في القرن التاسع عشر. ويرى  انرواد الفكر العربي في القرن التاسع عشر، طبقاً لفهمهم لحالة الامبراطورية العثمانية وسعيهم لعمل إصلاحات سياسية وإجتماعية تبنوا اتجاهين: الأول يدافع عن أفكار الوحدة الإسلامية والآخر في اتجاه بلورة عقيدة وطنية خالصة. ويرى إميل توما أن الكواكبيكان يقود الاتجاه الأول وأن الاتجاه الثاني تزعمه الأرمني الشاب أديب اسحق. وقال توما أن  أبرز ممثلي التيار العربي الوطني هو أديب اسحق واعتبره مفكراً ومحارباً منأجل الحرية والمساواة..ونحن نعتبر أن هذه الحقائق تكفي تماماً لنقرر أن الأرمن اعتبروا حركة النهضة العربية كأنها قضيتهم وفعلوا كل شيء لنصرتها .
 
 تأثيرات المجزرة على أرمينيا.

كانت بعض الأعمال المتطرفة عند بعض التجمعات الصغيرة من الأرمن سبباً, ذريعة لقيام حملة عنيفة من القمع الوحشي ضد الأرمن, اتخذت صورة الإبعاد الجماعي أو المذابح الجماعية, وكان ذلك بتغاضي السلطات أو بتحريضها وبلغت تلك الحملات غايتها في أيام الحرب العالمية الأولى سنة 1915م حيث بدأت عملية القمع المنظم للأرمن وكانت معركة الأرمن ضد الاتراك خاسرة سلفا بسبب افتقارهم للسلاح،ويمكننا القول أن أعمال التهجير تمت في نهاية عام 1915م في ظل المجازر التي تعرّضلها الأرمن من مواطني الدولة العثمانية، والتي راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني وعشرات الآلاف من أبناء الطوائف الأخرى.

و في  20  تشرين الاول1921، اعلن  التنازل الكامل والرسمي عن كيليكيا و عن  اراضي  الشرق  لتركيا  في أنقرة حيث أبرمت اتفاقية بين هنري فرانكلين- بويون، ممثل فرنسا، ويوسف كمال وزير الخارجية في الحكومة الكمالية. وللحال سرت حركة رعب في صفوف سكان كيليكيا، ولا سيما بين الارمن.لقد كانوا جميعا عازمين على مغادرة المنطقة الكيليكية قبل الجلاء الجنود الفرنسيين الكامل واقامة ادارة تركية حدد تاريخها في 4 كانون الثاني 1922. وحث الجنرال غورو السكان بحرارة على البقاء في اماكنهم وعدم مبارحة البلاد مؤكدا لهم ان  الحكومة الفرنسية قامت بما يلزم لصون حقوق الاقليات . وتجدر الاشارة الى ان الاولوية بالنسبة الى المفوضية العليا في هذه االفترة كانت الحفاظ على الامن في سوريا ولبنان. فينبغي تجنيبهما تدفق  موجات اللاجئين الوافدين من كيليكيا، ايا يكن الثمن. ولكن سرعان ما تبيّن المناطق السورية والبنانية هي من بين الاماكن النادرة التي يستطيع ان يقصدها اللاجئون الكيليكيون. اما المسؤولون الفرنسيون الذين يتمتعون ببعض الخبرة ، فكانت اسباب كثيرة تثير فيهم الخوف من ان يتحول اسكان اللاجئين كتلة واحدة، وهم في غالبيتهم الكبرى مسيحيون، مصدر اضطرابات طائفية في سوريا  ولبنان، ويعرض بالتالي السلطة الفرنسية الجديدة للخطر. والحاكم العسكري والاداري في كيليكيا ص51، يعي ان الاتفاقية المعقودة  في انقرة لا تنص على اي بند يضمن بصورة محسوسة حقوق الاقليات غير التركية في كيليكيا.وكان يسعى الى ان يشرحلرؤسائه في بيروت أن حالة الذعر الناشئة وسط سكان كيليكيا المسيحيين  سببها ثغرات في إتفاقية أنقرة. غير أن المفوضية العليا امرته بمنع هذه الهجرة الجماعية واضعة تحت تصرفه كل الوسائل الممكنة.

لكن جميع المساعي الهادفة إلى ثني السكان الارمن عن مغادرة البلاد لم تجد نفعاً. فقرار  الرحيل قبل وصول الاتراك  كان حازماً جداً، وأخذ الجنرال دوفيو يعطي اجازات  خروج لكل الطالبين.

بعدما أذعن المسؤولون الفرنسيون للأمن، قرروا أن ينظموا  بأنفسهم الهجرة الجماعية. وفي 15 كانون الأول، تألفت، بمبادرة من السلطات الفرنسية، لجنة مكلفة إحصاء المهاجرين وانقلهم بحراً. و عليه اخليت كيليكيا، بين تشرين الثاني وكانون  الأول ١٩٢١، من جزء كبير  من سكانها. وهكذا رجع عشرات الألاف من الارمن الذين أعيد ايواؤهم قبل ثلاث سنوات رجعوا بغالبيتهم إلى المنفى في سورية ولبنان.
 
إن رحيل الارمن، اواخر عام ١٩٢١، تم في أغجلب الأحيان وفق معيار وحيد هو أن تكون تلك الجهات خارج المراقبة التركية. ففي نهاية  كانون  الأول أنزل ألف وخمسمئة  لاجئ كيليكي في بيروت.

غير أن سوريا ولبنان  لم يكون الوجهتين الوحيدتين اللتين سلكهما ارمن كيليكيا. فثمانية الاف منهم قصدوا قبرص: و لكنهم كانوا ينتمون إلى عائلات ميسورة، إذاً مستقلة، ولم تكن السلطات البريطانية مجبرة على أخذهم على عاتقها.

ووصلت خلال سيف ١٩٢٢، موجة ثانية ضخمة من اللاجئين إلى شمال سورية بإتجاه منطقة حلب قديمة من عنتاب وكيلس ومرعش. وفيما كانت كيليكيا قد اخليت من سكانها الارمن عقب الإنسحاب الفرنسي النهائي من المنطقة، قرر بضعة الاف من الارمن البقاء في تلك المدن الثلاث. وفي مطلع كانون الثاني ١٩٢٢ كان لا يزالون خمسة الاف في مرعش وخمسة الاف في عنتاب وألفين في كيلس. وكان الأمر أسسن يتعلق بأشخاص عجزوا عن الفرار لدى قيام النظام التركي الجديد. والواقع أن كيلس وعنتاب كانتا خلافاً لدرتيول ومرسين، محرومتين من وسائل نقل سريعة مع سوريا ولبنان كانت تسمح بإجلاء الألاف من الأشخاص في اسابيع قليلة. 
 
ترقبوا في الجزء الثاني:
-مخيمات اللاجئين إلى أحياء المدن
التواجد النهائي للأرمن.


 
تحقيق APR 24, 2012
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد