جاءت تعاريف الموازنة في الإطار الذي وضعه لها المشترع الذي يستلهم، في ذلك، النظام السياسي والإقتصادي والإجتماعي السائد. فتدخل الموازنة في إطار مفهوم كامل وشامل. ولأنّ الموازنة جاءت على هذا القدر من العموميّة، فقد جاءت تعاريفها، في العديد من القوانين والتشريعات، في العالم، بعبارات عامّة، وملتبسة أحياناً، لتتيح لها قدراً من المرونة، للإستجابة إلى مستجدّات التطوّر وتوجهات الدولة والحكم.
ومن المعروف أنّ الموازنة، بمفهومها الحديث، أنّها المحور الذي تدور حوله أعمال الدول ونشاطها في مختلف الحقول. وهي من نتاج الحضارة الغربيّة، فعبارة budget ، المعرّبة بعبارة "الموازنة" اشتقّت من كلمة فرنسيّة قديمة boug أو bougette، وهي تعني الكيس الصغير من الجلد أو القماش الذي توضع فيه النقود. وقد عنت الكلمة في بريطانيا كيس الملك le sac du roi، أو الخزنة التي تحتوي على هذا الكيس.
أمّا لبنان فقد عرّف الموازنة في المادة 3 من قانون المحاسبة العموميّة الصادر بالمرسوم رقم 14969 تاريخ 30-12-1963 بأنّها: "صك تشريعي تقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها، عن سنة مقبلة وتجاز بموجبه الجباية والإنفاق".

ويلاحظ من هذا التعريف أنّ الموازنة في لبنان تشتمل على خمس مبادئ أساسيّة وهي:
- قاعدة توازن الموازنة
- قاعدة الشمول
- قاعدة عدم تخصيص الواردات
- قاعدة سنويّة الموازنة
- قاعدة وحدة الموازنة
ونحن في هذا البحث سوف نعالج المبدأ الخامس وكيفيّة تطبيقه في لبنان مع ذكر تداعيات عدم الإلتزام به على حسن تنفيذ الموازنة.
إذاً، ما هو مبدأ وحدة الموازنة؟ وما هي حالات الشذوذ عنه؟ وما هي أثار عدم الإلتزام به؟
ولمعالجة هذا الموضوع سوف يقسم البحث إلى قسمين بحيث يتناول الأوّل التعريف لكلّ من مبدأ الوحدة والموازنات التي تعدّ شذوذاً عن هذه القاعدة بينما سيسلًّط الضوء في القسم الثاني على كيفيّة تطبيق هذا المبدأ في لبنان وتداعياته.
فلهذا الموضوع أهميّة كبرى، وهو أساس في السجالات والمناقشات الحادّة في الشارع اللّبناني، خاصةً وإن الحكومات المتواليّة منذ ال 2005 حتى تاريخ اليوم لم تُصّدِقْ على أي موازنة.

القسم الأوّل:الموازنة بين مبدأ الوحدة والشذوذ عنه.
يعكس تعريف الموازنة المذكور في المقدّمة النظرة التقليديّة لدور الموازنة الذي يطغى عليه الطابع القانوني، كذلك فإنّ طريقة عرض الموازنة حيث تظهر على شكل جداول تعرض لنفقات مقابل إيرادات، فتبسط الواقع المالي للدولة، دون أن يعكس صحّته من حيث موجودات الدولة وإلتزاماتها المستقبليّة والديون المستحقّة لها وعليها. فبرز الشذوذ عن بعض قواعد الموازنة ومنها قاعدة الوحدة.
الفقرة الأولى:معنى التوحيد وأهميّته.
يقضي مبدأ الوحدة بأن تثبت نفقات الدولة ووارداتها في سند واحد، بحيث يكون للدولة الواحدة موازنة واحدة أيّاً كانت منابع الواردات وأيّاً كانت وجوه الإنفاق
[1]، ممّا يظهر الموازنة بأبسط صورة ممكنة أمام كلّ من يريد الإطلاع على المركز المالي للدولة أو عن توازن أو عدم توازن موازنتها
[2].
وجوهر المبدأ يكمن بعدم التعدّد في الوثائق المعروضة وتقديمها في وقت واحد إلى البرلمان.
والتوحيد ينطوي على معنيين: الأوّل توحيد كلّ من كتلتيّ النفقات والواردات في الحقل المخصّص له، والثاني توحيد الكتلتين في كتاب واحد.
ولهذا المبدأ مزاياه وأهمّها:
1-
التنظيم والوضوح وتمكين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، والمواطنين، من تكوين فكرة صحيحة وسريعة عن نشاط الدولة وعن مدى تعادل أعبائها وإمكاناتها. إذ يكفي النظر إلى إجمالي النفقات والإيرادات للوصول إلى العديد من البيانات كمعرفة توازن الميزانيّة أو مقارنة هذه النفقات أو الإيرادات بإجمالي الدخل القومي لإظهار مدى تدخّل الدولة في الحياة الإقتصاديّة أو بمقارنة إجمالي النفقات في هذه السنة بالسنوات السابقة لمتابعة ظاهرة الإزدياد في النفقات العامّة[3] .
2-
يساعد تطبيق هذا المبدأ البرلمان في مراقبته للنشاط المالي للدولة، فيسمح له بالإلمام بالوضع المالي دون السماح للحكومات بتجزئة الميزانيّة أو بإخفاء بعض الأنشطة التي حصلت على الإجازة البرلمانيّة ثمّ التقدّم بالبعض الآخربعد ذلك واضطراره على الموافقة وعلى فرض الضرائب[4].
ولا يمكن التكلّم عن مبدأ الوحدة دون ذكر مبدأ الشمول لأنّ الغاية منهما تكاد تكون واحدة، وهي تنظيم موازنة واضحة تمكّن السلطة التشريعيّة من تكوين فكرة شاملة عن مجموع أعباء الدولة ووارداتها وعن تفاصيل هذه الأعباء والواردات، مفسحةً المجال أمام السلطة المذكورة لإجراء الرقابة المنشودة عليها.
وعلى الرغم من وجه الشبه بين المبدأين، لا تزال توجد بينهما بعض الفوارق وأهمّها
[5]:
1-
يقضي مبدأ الشمول بأن يثبت في الموازنة جميع النفقات والواردات غير الصافية، بدون إغفال شيىء منها أو إجراء المقاصة بين حقليّ النفقات والواردات. ولا يتطرّق مبدأ الشمول إلى قضيّة توحيد النفقات والواردات في موازنة واحدة، أو تركها موزّعة في عدّة موازنات، ذلك أنّه يمكن مراعاة مبدأ الشمول في نطاق كلّ من قاعدتي التعدّد والتوحيد. ويقضي مبدأ الوحدة جمع النفقات والواردات في صك واحد، مستنكراً تعدّد الموازنات. غير أنّه لا يتطرّق إلى كيفيّة قيد الواردات والنفقات، وما إذا كان يقتضي ان تتبع فيهذا القيد قاعدة الشمول أو قاعدة الصوافي، ذلك أنّه يمكن مراعاة مبدأ الوحدة في نطاق كلّ من هاتين القاعدتين.
2-
يرمي مبدأ الشمول إلى تأمين حقّ السلطة التشريعيّة في حقل الموازنة، ولا سيّما حقّ الإطلاع عليها إطّلاعاً كاملاً، وحقّ الإذن بالجباية والإنفاق، وحقّ المراقبة. ويحظر هذا المبدأ إخفاء أي من عناصر كتلتي الواردات والنفقات. أمّا مبدأ الوحدة فيرمي إلى توحيد الأعباء والواردات ليسهّل على السلطة التشريعيّة أمر التمرّس بحقوقها المذكورة.
لكن أهميّة مبدأ وحدة الموازنة بدأت تنحسر في الفترة الأخيرة ويمكن تفسير هذا الإنحسار بسببين رئيسيّين:
-
الأوّل: فرضته الظروف والتطوّرات التي دفعت الدولة إلى التدخّل في مختلف الميادين وإنشائها لمرافق ومصالح عامّة ذات صبغة صناعيّة وتجاريّة.
-
الثاني: كان نتيجة منطقيّة لتطوّر دور الدولة، إذ أصبح من غير المستساغ الجمع بين نفقات دائمة وأعباء ذات صفة مؤقتة، كذلك التوفيق بين واردات ثابتة وعائدات غير دائمة.
وعلى هذا الأساس بدأ الشذوذ عن قاعدة الوحدة خلال الحرب العالميّة الأولى، واتّسع خلال الحرب العالميّة الثانية، ممّا أدّى إلى تكاثر الموازنات من عامّة ومستقلّة واستثنائيّة وغيرها.
وقد ظهرت نتيجة هذا الأمر في معظم التّشريعات الماليّة لمختلف الدول، إذ بدأت تتخلّى عن مبدأ وحدة الموازنة لمصلحة تعدّدها. كما ذكرهذا في التشريع المالي اللّبناني. فما هي هذه الإستثناءات؟ هذا ما سنعالجه في الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية:تعدد الموازنات في التشريع اللبناني.
أخذ التشريع المالي اللبناني بمبدأ تعدد الموازانات، حيث نصت المادة 6 من قانون المحاسبة العموميّة
[6] على ما يالي:"تتألف موازنة الدولة من الموازنة العامة، وموازنات ملحقة وموازنات إستسنائيّة.". بالإضافة إلى موازنة لكل من الأشخاص العموميين المستقلين عن الدولة، مع إمكنيّة تعدد الموازنات بالنسبة لكل من هؤلاء الأشخاص وذلك على الشكل التالي:
·
الموازنات الملحقة Les budgets annexes
مع توسع نشاط الدولة، كان من الضروري التفتيش عن أساليب مرنة للإدارة المالية بما يتوافق مع الأنشطة الجديدة، فقد أنشىء لكل مرفق عام ذي طابع صناعي أو تجاري، متمتعا بإستقلال مالي دون التمتع بالشخصيّة المعنويّة المستقلة، موازنة ملحقة تسمح له بإدارة أمواله الذاتيّة بشكل منفصل عن الموازنة العامة. وترتبط هذه الميزانيات بموازنة الدولة بالرصيد سواء كان دائناً أو مديناً.
[7] وخسارتها تغطيها الموازنة العامة على شكل مساعدات، مما يتيح لنا القول بأن وجود الموازنات الملحقة لا يشكل مطلقاً خروجاً عن مبدأ وحدة الموازنة بقدر ما هو تنظيم جديد لإدارة الأموال العامة ضمن إطار هذا المبدأ ليس إلا.
[8] وهي ملتصقة بالموازنة العامة إذ يصدق عليها مجلس النواب وعلى الموازنة العامة في وقت واحد، والشذوذ لا يبرز إلا بكونها تضاف الى الموازنة العامة بدلاً من أن تذوب فيها وبكونها تتمتع بالشخصيّة الماليّة.
[9]

· الموازنات المستقلة Les budgets autonomies
الموازنات المستقلة تعتبر شذوذاً عن مبدأ الوحدة لكونها تنظم في صكوك أو بيانات منفصلة عن الموازنة العامة.
[10] وهي ميزانيات المشروعات العامة ذات الطبع الإقتصادي التي منحت الشخصيّة المعنويّة مما يستتبع إعدادها بميزانيّة مستقلة لنشاطها دون الحاجة الى نص صريح بإنشائها،
[11] مما يؤدي الى عدم خضوعها للبرلمان، فمجلس إدارتها هو الذي يقوم بإعتماد موازنتها على نحو مستقل، وتظل هذه الموازنات مرتبطة بموازنة الدولة حيث يحسب الفائض في موازنة المؤسسة العامة ضمن واردات الموازنة العامة ويغطى العجز فيها من الموازنة العامة.
[12]
تتميّز هذه الموازنات بالتالي:
-
تحدد شروط تطبيق قانون المحاسبة العموميّة عليها بمراسيم خاصة.
-
لا تعرض على مجلس النواب، بل يصادق عليها مجلس الإداره بالنسبة للمؤسسات العامة والمجالس البلديّة بالنسبة للباديات وسلطة الوصايّة الخاصة بكل منها.
·

الموازنات الإستثنائيّة Les budgets extraordinaires
للدولة نفقات وواردات عادية شبه مستقرة تتكرر كل سنة، كواردات الضرائب العاديّة المباشرة وغير المباشرة، والنفقات اللازمة لتسير الإدارات العامة، كالأمن والقضاء والصحة العامة. ولها نفقات وواردات غير عاديّة كواردات الضرائب الإستثنائيّة والقروض، ونفقات المشاريع الإنشائيّة الكبرى، ونفقات الحرب. إنطلاقاً من هذا الواقع خصصت الدول موازنة للنفقات والواردات العاديّة، تعرف بالموازنة العاديّة وأخرى للنفقات والواردات غير العديّة، عرفت بالموازنة الإستثنائيّة.
تتميز هذة الموازنة بأهدافها الإقتصاديّة والإجتماعيّة. فهي ترمي إما إلى إعادة التعمير بعد حرب (...) إما الإنتقال من إقتصاد الحرب إلى إقتصاد السلم، وإما إلى إعادة التجهيز... وتتميز بكونها منفصلة عن الموازنة العاديّة تنظم في صك مستقل عنها، وتشكل بالتالي شذوذاً عن قاعدة الوحدة.
[13]
وتجدر الإشارة إلى أن الإتجاه الحديث يميل إلى عدم الأخذ بهذا النوع من الموازنات بعد أن إنحسرت معايير التفرقة بين نوعي النفقات، إضافةً إلى أن النفقات والواردات الإستثنائيّة قد أصبحت متكرره (بإستثناء الحروب) وإستعمال هذا النوع من الميزانيات كوسيلة للإيهام بأن الموازنة العامة متوازنة.
لذلك طبق أسلوب جديد للموازنة العامة قائم على قسمين رئيسيين:
[14]
-
القسم الأول ويتضمن النّفقات العاديّة.
-
القسم الثاني ويحتوي على نفقات التوظيف أو نفقات المشاريع الكبرى الّتي أصبحت من النّفقات العاديّة في معظم الدول الحديثة، لذلك بدأت أرقامها تظهر في الموازنة العامة، مع تنظيم حساباتها بصورة منفصلة عن حسابات النّفقات الإداريّة مما ساعد على إحترام وحدة الموازنة.

·
حسابات الخزينة الخاصّة Les comptes speciaux du tresor
تضطلع الخزانة وفقاً للفكر التّقليدي بوظيفتين رئيسيّتين
[15]:
1.
وظيفة تحصيل الإيرادات وإنفاق المصروفات والتوفيق بين عمليّات التّحصيل وعمليّات الصّرف، بحيث تتوافر الأموال اللاّزمة للوفاء بتعهدات الدولة وإلتزماتها. كذلك بعمليات إصدار وإدارة الدين العام.
2.
وظيفة البنك للدولة: حيث أن تركيز الأموال تحت يد الخزانة يمكنها من القيام بعمليات أخرى لا تقتصر على مجرد صرف النفقات، بل قد تقوم الخزانة بدور بنك الودائع أو بنك أعمال يمد بعض المشروعات التي تتفق و أهداف البرامج الحكوميّة بالأموال... كما تتولى الإشراف على برامج التنميّة التي تمولها الدولة بطريق مباشر أو غير مباشر أو بتملكها لمحفظة هامة للأسهم والسندات، بالإضافة إلى قيامها بدور نقدي له أهميّة كمساعد أو كبديل للبنك المركزي.
وتشتمل هذه الحسابات على جميع العمليات الماليّة المترتبة عن خروج أموال من الخزينة العامة أو الدخول إليها بصورة غير نهائيّة. والحسابات الخصوصيّة نوعين:
[16]
-
الأول الحسابات الدائينة التي تسبق وارداتها النفقات كحساب الكفالات والتأمينات والمحجوزات، وهي لاتثير أية مشكلة، إذ أن الإنفاق لا يتم إلا من أصل إيراد موجود.
-
الثاني الحسابات المدينة التي تسبق نفقاتها وارداتها كحساب السلفات، فيحصل بشأنها أن الإنفاق يتم قبل وجود الإيراد، وكثيراً لا يتحقق ذلك، أو يتحقق قسم منه، فتقع الحسابات الخصوصيّة في عجز.
وهكذا تكون هذه الحسابات قد إستعملت لإنفاق مبالغ كبيرة بدون موافقت السلطة التشريعيّة، وبدون أن تدون أصلاً في الموازنة، وفي ذلك شذوذ صريح عن مبدأ الوحدة.
وبعد العرض المفصل لمفهوم وحدة الموازنة وحالات الشذوذ عنه سوف ننتقل إلى القسم الثاني من هذا البحث لعرض الواقع اللبناني وعلاقته بهذا المبدأ وأثر ذلك على الوضع الإقتصادي والسياسي اللبناني.
[1] خطار شبلي،
علوم ماليّة وتشريع مالي، دار المنشورات الحقوقيّة، مطبعة صادر، 1994، ص.52.
[2] فوزت فرحات،
الماليّة العامّة – الإقتصاد المالي، كليّة الحقوق، الجامعة اللّبنانيّة، 2010، ص.90.
[3] عبد الكريم صادق بركات،
الإقتصاد المالي، الإسكندريّة، الدار الجامعيّة، 1987، ص.377.
[5] خطار شبلي، المرجع السابق، ص.54-55.
[6] الجمهوريّة اللبنانيّة، مجلس الوزراء،
قانون المحاسبة العموميّة، مرسوم رقم 14969 تاريخ 30-12-1963.
[7] عبد الكريم صادق بركات، المرجع السابق، ص 375.
[8] فوزت فرحات، المرجع السابق، ص 94.
[9] خطار شبلي، المرجع السابق، ص 56.
[11] عبد الكريم صادق بركات، المرجع السابق، ص 376.
[12] الجمهوريّة اللبنانيّة، وزارة الماليّة، المعهد المالي،
احكام الموازنة العامة، الطبعة الأولى-تشرين الثاني 2007، ص 11.
[13] خطار شبلي، المرجع السابق، ص 57.
[14] فوزت فرحات، المرجع السابق، ص99.
[15] عبد الكريم صادق بركات، المرجع السابق، ص 392.
[16] خطار شبلي، المرجع السابق، ص 59.