أثر عدم الإلتزام بمبدأ وحدة الموازنة على حسن تنفيذها - القسم الثاني
تحقيق NOV 13, 2012
القسم الثاني:لبنان في خط الفساد والتدهور المالي...

القوانين والتشريعات اللبنانيّة عالجت الموازنة العامة وكيفيّة تتطبيقها بطريقة صريحة وواضحة، فالموازنة في لبنان تتألف من الموازنة العامة، وموازنات ملحقة وإستثنائيّة...
 
الفقرة الأولى:واقع التطبيق.
تعرض الموازنة العامة في لبنان على مجلس النواب في صيغتها النهائيّة في صك واحد يقسم إلى فصول والفصول إلى مواد والمواد إلى بنود حيث يجري التصويت عليها بشكل عام أولاً ثم يصوت بعدها على البنود بنداً بنداً. فتظهر الموازنة عندها موحده، خلافاً للواقع، الذي يشهد جميع أنواع الشذوذ منذ فترة طويلة. الموازانات الملحقة في لبنان هي:  موازنة الإتصالات، موازنة مديريّة اليناصيب الوطني، موازنة المديريّة العامة للحبوب والشمندر السكري.
 

وكان شذوذ هذه الموازنات عن مبدأ الوحدة  منذ قيام الجمهوريّة اللبنانيّة حتى عام 1960 شذوذاً تاماً حيث كان ينظم كل منها على حده، ويقدم الى السلطة التشريعيّة في مواعيد مختلفة، حتى أن تبويب النفقات والواردات لم يكن واحداً.

أما منذ عام 1961 وفي خطوة أولى تم توحيد الموازنات مع الموازنة العامة توحيداً مادياً، وبرزت الموازنة لأول مرة في كتاب واحد تحت إسم "الموازنة العامة والموازنات الملحقة1]، وأحدث الإرتباط بين هذه الموازنات بأن جمعت جميع نفقات الموازنة العامة والموازنات الملحقة ووارداتها، بعد إجراء التصحيحات اللازمة لإزالة التشابك الحاصل فيما بينها، في كتاب واحد.

الخطوة الثانيّة كانت في موازنةعام 1962 [2]، حيث شكلت الموزنتيّن موضوع قانون واحد.

وحصلت الخطوة الثالثة في موازنتي 1963 و1964[3] ، حيث قطعت حسابات الإعتمادات المفتوحة مسبقاً خارج الموازنة ونقلت أرصدتها الى الأجزاء المختصة من الموازنة العامة.

وفي موازنة ال2004 وهي أخر موازنة صدق عليها المجلس النيابي قبل الدخول في الأزمة المستمرة حتى اليوم ألحق بمشروع قانون الموازنة[4]، أربعة جداول إجماليّة للنفقات، واحد للموازنة العامة مع إجمالي النفقات للموازنات الملحقة. وجدول إجمالي لكل من الموازنات الثلاث الملحقة، موزعة حسب الفصول، بصورة إجماليّة[5].
 

§  الموازنات المستقلة لا تعرض على المجلس النيابي لإقرارها، بل تقرّرها مجالس إدارة المؤسسات العامّة التابعة لها، وتعرض على تصديق وزارة الوصاية ووزارة الماليّة، كما هو الحال في لبنان[6].

والمؤسسات العامة ذات الموازنات المستقلّة، في لبنان، كثيرة أهمّها: مؤسسة كهرباء لبنان، مصلحة مياه بيروت، المصلحة الوطنيّة لنهر اللّيطاني، مصلحة الأبحاث العلميّة والزراعيّّة، مصلحة الإنعاش الإجتماعي، مكتب الحرير، مكتب الفاكهة، مؤسسة معرض طرابلس، مصلحة مرفأ طرابلس، مصلحة المدينة الرياضيّة، مصالح المياه في المناطق، الجامعة اللّبنانيّة، تعاونيّة موظفي الدولة...

ويجدر بنا الذكر، في هذا المجال، بعض التوصيات التي أقرتها "اللجنة الماليّة" في المؤتمر العربي الرابع للعلوم الإداريّة[7]:

-   إعادة النظر في وصع الموازنات المستقلة والملحقة على ضوء التطورات الحديثة، التي تتعلق بموازنات النشاط الجاري للخدمات والأعمال، والموازنات الإستثماريّة أو الإنمائيّة.
-   إتباع قواعد المحاسبة العموميّة التجاريّة بالنسبة للوحدات أو المؤسسات أو الهيئات  العامة التي تمارس نشاطاً إقتصادياً، حتى يمكن الحكم على نتائج الأعمال وتحقيق الأهداف الإقتصاديّة والإجتماعيّة.
مراعاة وضع نظم للحوافز الماديّة والمعنويّة ترتبط بتطبيق نظام الموازنات والرقابة المؤخرة التي تتعلق بنتائج التنفيذ.
  
والمثال اللبناني على الموازنة الإستثنائيّة هو موازنة المشاريع الإنشائيّة، التي كانت تموّل بموارد غير الموارد العاديّة. وقد ألغيت هذه الموازنة، وأصبحت الموازنة العامّة تتضمّن نفقات المشاريع الإنشائيّة الطويلة المدى. وقد حصل تطوّر جديد في لبنان، إذ صدر قانون رقم 55\66 بتاريخ 3 أيلول 1966[8]، قضى بدمج الجزء الثاني، نفقات التجهيز والإنشاء السنويّة، بالجزء الثالث من الموازنة، بحيث أصبحت تشكّل جزءاً واحداً، هو الجزء الثاني من الموازنة، الذي يحتوي على مجموع نفقات التجهيز والإنشاء ومساهمة الدولة الإنمائيّة. وهذا التطوّر متوافق مع المفهوم الجديد، الرامي إلى عدم الأخذ بالموازنات الإستثنائيّة، إذ إنّ نفقات التوظيف والنفقات الإنشائيّة أصبحت تعتبر الآن بمثابة النفقات العاديّة في الدول الحديثة، ولذلك أصبحت أرقامها تظهر في الموازنة العامّة، ويكتفي بتنظيم حساباتها بصورة منفصلة عن حسابات النّفقات الإداريّة.

فالموازنات الإستثنائيّة مستقلّة عن الموازنة العامّة، وهي تحدث بقانون خاص ولا تخضع للقاعدة السنويّة[9].

 

 

§  حسابات الخزينة الخاصّة لا تعرض في لبنان على السلطة التشريعيّة، وأهمّها: حسابات الأمانات، حسابات السلفات، حساب حركة النقود وحساب الكفالات.

وقد ذكر قانون المحاسبة العموميّة في القسم الثاني من الفصل الثالث من الباب الأوّل منه في المادة 95 تحت عنوان "سلفات الموازنة"، السلفات وحدّدها بسلفات دائمة وسلفات طارئة وحدّد مقدار السلفة ونوع النفقات التي يمكن دعها من أصل السلفة وحدّد المهل القانونيّة للتنفيذ.

وخطر هذه الحسابات يتمثّل في السلفات التي تعطى للبلديّات أو الؤسسات العامّة أو غيرها ولا تسدّد من قبل هذه الهيئات، ممّا يجبر الحكومات على فتح إعتمادات في الموازنة لتسديدها. وهكذا تكون السلطة التشريعيّة قد وضعت أمام الأمر الواقع، وأنفقت بالفعل، مبالغ لم توافق عليها هذه السلطة، ولم تكن قد وردت في الموازنة عند تسليفها[10].
 
وبناءاً على ما تقدم  يتبين لنا أن لبنان، وبعد أن تخلى عن الموازنات الإستثنائيّة نسبياً، وأصبح يقدم الموازنات الملحقة مع الموازنة العامة بقانون واحد، يكون قد سار خطوات كبيرة نحو وحدة الموازنة، يجب أن يتبعها بعرض "حسابات الخزينة الخاصة" مع الموازنة العامة أيضاً. وبذلك لا تبقى سوى الموازنات المستقلّة خارج الموازنة.
 

الفقرة الثانية: إصلاح الموازنة عبر تفعيل الرقابة في لبنان.
تطورت النظرة إلى موازنات الدول منذ مطلع القرن العشرين، حيث أصبحت الموازنة وسيلة لتوازن التقلّبات الإقتصاديّة وتعزيز التنمية والتخطيط القومي والمساءلة والمحاسبة ضمن الأطر الديمقراطيّة.

مع ذلك لا بدّ من ملاحظة الثغرات والإنحرافات في عمليّة المراقبة أثناء وضع وتنفيذ الموازنة العامّة في لبنان على صعيد سلطات الرقابة.

§  لديوان المحاسبة صاحيّة إجراء التدقيق المؤخّر لحسابات الإدارات وبالتالي المحاسبة على الأداء وحسن تنفيذ الموازنة. غير أنّ هذا الأخير لا يمارس الرقابة المؤخّرة إلاّ نادراً ذلك أنّ الرقابة المسبقة تستحوذ على معظم وقته وقد تكون في بعض الأحيان تكراراً لما تقوم به وزارة الماليّة في هذا المجال. من ناحية أخرى لا تخضع الكثير من المؤسّسات والمصالح المستقلّة قانوناً سوى لرقابة لاحقة ممّا يجعلها بمنأى عن رقابة بالنسبة لتنفيذ موازنتها.

§   لا يحظى قطع الحساب بنقاش جدّي من قبل مجلس النوّاب كما أنّه لا يناقش من قبل النقابات الإقتصاديّة أو المجتمع المدني، علماً أنّه صك أساسي في عمليّة المحاسبة لأنّه يقارن بين المخطط له والمحقق ولأنّ المجلس النيابي هيئة تشريعيّة سياسيّة منتخبة ويفتقد معظم أعضائها إلى الدراية والعلم المالي والإقتصادي فلا تتمّ مناقشة عمليّة في المجلس بل مجرّد نقاشات وكيديّات سياسيّة يتمّ في آخرها التصديق على الموازنة بعد أن تمّ التوافق عليها من قبل الزعماء الأساسيّين في الكواليس.

§ بعض الموازنات المستقلّة للمؤسّسات العامّة لا تقدم توقعات أو تخطيط واضح في مشاريع موازنتها، ممّا يؤدي إلى صعوبات في ضبط عملياتها الماليّة خلال السنة ولجؤوها إلى الإستدانة بكثافة، (كما هي حال مؤسسة كهرباء لبنان مثلا) مما يرتب عبء تسديد هذا الدين على المواطن.

§ لم يعرف لبنان في كثير من المراحل الإستقرار السياسي والأمني والإقتصادي[11]، ونرى أنّ المواطن اللّبناني اعتاد على ذلك فلم يعد يهتم بتتبّع مراقبة الموازنة أو المطالبة بتصحيحها ولهذا لم يعد يهتمّ بإقرار الموازنة العامّة حتى ما دام يحصل على ما يريده من أماكن أخرى في حال تعطّلت مؤسّسات وأجهزة الدولة اللّبنانيّة. وبالتالي فإنّ الإصلاح الحقيقي يكون عبر تأمين رقابة دائمة مستمرّة على الوضع المالي اللّبناني والإنفاق العام خاصّة بعد أن تراكمت الأخطاء وإقرار وتنفيذ الموازنات في لبنان[12].

وبالمقابل نراى تحركاً لآفتاً من قبل المجتمع المدني لتعزيز الشراكة بينه وبين الحكومة لتقويم الموازنة، من خلال تنظيم ورشات عمل تحت إشراف إتحاد المقعدين، في إطار "المشروع الوطني حول الموازنة البديلة"[13].
 
 
                                                                                                                      
 
­­­­­
واليوم، وفي إنتظار إنطلاق العام الجديد (2013)، لا يظّل لبنان من دون موازنة عامة مصدّق عليها من المجلس النيابيّ منذ عام 2005، وأمور ومشاريع الدولة تسيّر بطريقة غير قانونيّة ويقوم الإنفاق والجبايّة على أساس موازنات إثني عشريّة ما رتّب مصاريف إضافيّة نتج عنها صرف مبلغ 11 مليار دولار أمريكي من خارج هذه القاعدة، وعدم الإلتزام بمبادىء الموازنة العامة وخاصةً كلّ من مبدأ الوحدة ومبدأ السنويّة، مما يثير طرح مشكلة الفساد في إدارات الدولة ومنها وزارة الماليّة، والتساؤل كيف أن 15 سنة من الحرب الأهليّة رتّبت علينا دين أقل من مليار دولار في حين أنه خلال 20 سنة من السلم الأهلي تكوّن حوالي 60 مليار دولار من الدين؟ كما أشار الخبير الإقتصادي إيلي يشوعي.

إذاً الموازنة في لبنان ليست منتج مالي وإقتصادي بل هي خليط من السياسة والمال والمصالح الطائفيّة والفئويّة والتي عليها أن ترضي جميع الأطراف بغض النظر عن الحلول الجديّة للمشاكل التي تعترض اللبنانيين.

فهل إصلاح الموازنة، وإحترام مبادئها كاف في لبنان، أم عليه أن يترافق مع إصلاح بعض أوجه النظام؟ وهل يستطيع لبنان أن يحدّ من الفساد والسرقة للماليّة العامة دون إصلاح النظام القضائي؟

[1] خطار شبلي، المرجع السابق، ص 56.
[2] المرجع نفسه.
[3] المرجع نفسه، ص 57.
[4]  عبد اللطيف قطيش، الموازنة العامة للدولة (دراسة مقارنة)، منشورات الحلبي الحقوقيّة، 2005، ص 170.
[5] أنظر إلى الملاحق المرفقة بالبحث.
[6] الجمهوريّة اللّبنانيّة، مجلس الوزراء، النظام العام للمؤسسات العامّة، المرسوم رقم 4517، تاريخ 13-12-1972.
[7] حسن عواضة وعبد الرؤوف قطيش، الماليّة العامّة، الموازنة، الضرائب والرسوم (دراسة مقارنة)، دار الخلود، بيروت، 1995،69.
[8] المرجع نفسه،ص.71.
[9] الجمهوريّة اللّبنانيّة، وزارة الماليّة، المعهد المالي، المرجع السابق، ص.11.
[10] حسن عواصة وعبد الرؤوف قطيش، المرجع السابق، ص 72-73.
[11] العجز المتراكم خلال فترة 1970-1990.
  عدم إنجاز قطع الحساب منذ العام 1993.
  عدم التصديق على أي موازنة منذ ال 2005.
  خسائر حرب تموز 2006.
  الأحداث والإضطرابات الداخليّة المستمرة.
[13]   تغريد عبدالله، ورشة إتحاد المقعدين حول تقويم الموازنة العامة: خطوة لتعزيز الشراكة بين المجتمع المدنيّ والحكومة،جريدة المستقبل، الإربعاء 7 شباط 2007، العدد 2523.
http://www.almustaqbal.com/storiesprintpreview.aspx?storyid=217187
تحقيق NOV 13, 2012
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد